المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قرأت لك : وقفات على طريق البحث العلمي.


AHMED ADEL
Dec-07-2006, 08:21 AM
من مذكرات باحث علمي
أخي الباحث ، أختي الباحثة :
أضع بين يديك جملة من الرؤى التي أراها تعيق الباحث في مجال الدرس والبحث ، آمل أن تكون ذا قيمة ، وأن تضفي شيئا جديدا ، أو ترسخ أمرا ما .

آفة البحث " التردد "

التردد له سلبياته الكثيرة في بحث الباحث ، أو رأيه ، أو موضوع بحثه ، ففي الأول لاتجد لدرسه بريقا ، وفي الثاني لا ترى لرؤاه نضوجا ، وفي الثالث لا تبصر له إقداما .
فتراه وهو يبحث يتوجس خيقة إما من مشرفه ، هل ينال رضاه ؟ وإما من مناقش ستوكل إليه رسالته بعد انتهائه ، ويضع الحواجز لفكره وتفكيره ، ولهذا يخسر كثيرا من الأفكار والشوراد الجميلة التي تخطر له في بحثه ، فالإبداع لا يأتي جملة واحدة ، بل هو شرارة يقذفها العقل ، وتبقى الأرض الحاملة لها ، فإن كانت الأرض مترددة ، كان طعاما للرياح السائرة ، فتطير من بين يديه ، وإن كانت الأرض خصبة أسقتها ، ونشأت وترعرعت ، واستوت على سوقها .
وقد قال سقراط في العلم : إذا أثبتته الأقلام لم تطمع في دروسه الأيام .
وأقول : إن السنارة لا تلتقط في كل رمية سمكة ، فكذا الفكرة لا تمر في كل حين .

- 2 -
قرين التردد " العجلة "

أجد بين التردد والعجلة جامعا ، وهو " عدم الاتزان في كلٍ " ، فكما أن التردد آفة ، فالعجلة من أخواتها ، وقد قال الشعبي : أصاب متأمل أو كاد ، وأخطأ مستعجل أو كاد ، وقد قيل :
لا تعجلنّ فربّما عجل الفتى فيما يضره

والعجلة في البحث العلمي تؤدي إلى خطأ في النتائج ، وسوء في التقدير ، فالباحث قد يتبين له في مسألة ما طرف ما ، يرى أنه فكرة لم يتوصل إليها أحد قبله ، فيمسك بهذا الخيط ليهدم أفكارا أخرى ، وما أسوأ النظر من زاوية واحدة للأمور ، دون قراءة شاملة فاحصة للمسألة ، وقد اطلعت على رسائل أجد فيها أن الباحث قد أمسك بخيط واحد ، وقد غمره الفرح والسرور ، وتناسى خيوطا أكثر في المسألة نفسها ، ونتج عنه خطأ في الحكم ، وضعف في التحليل ، دون أن يكلف نفسه القراءة الفاحصة للمسألة من جميع جوانبها ، والرفق في الفهم يزين الأشياء ، وتخطئة الآخرين ليس رفعة للإنسان ودليل على علو شأنه في العلم والفهم ، بل التعقل هو نور البحث والتحليل ، وعرض الفكرة بصورة هادئة مطمئنة ، يمنحها البقاء والقبول .
إن العجلة في البحث تجري على أمور متعددة ، تكون في الفهم تارة ، وفي النظر السريع تارة ، وفي حب الانتهاء من البحث تارة ، وفي حب ظهور الشخصية في البحث تارة ... إلخ .
كل هذا يضعف من البحث وباحثه ، فالرؤى والأفكار التي تقدم على بساط من الهدوء والتعقل ، تكون أمضى في عقول القراء ، وأكثر تأثيرا ، من اندفاع غير منضبط .

ضعف التصور

وأعني به عدم التفكير المسبق في طرق تناول المسألة ، وكيفية درسها ، وأنماط تحليليها ، ووضع تصورات سابقة للمبحث أو القضية التي يراد بحثها .
فالتصور الأولي للمسائل يمنحها الإبداع ، والإجادة ، ويجعل الباحث يسير بأمان في بحثه ، وأذكر في هذا المقام أنّ زميلا احتار في مبحث له في رسالته ، حيث لم يجد مايكتبه فيه عدا صفحتين ، فقمت بزيارته في بيته ، وأعطاني عنوان المبحث ، فوضعت له تصورا ما ، دون أن أعرف مفردات بحثه ، وماجمعه من مادة علمية فيه ، بعدها أخبرني أنه كتب فيه في ضوء هذا التصور ثلاثين صفحة ، واستجدت لديه أشياء وأشياء .
وفي اطلاعي على جملة كبيرة من الرسائل أجد أن الباحث في بعض المباحث أو المسائل يفقدها التنظيم ، والعقد الذي يجمع حباتها المتناثرة ، وسببه - برأيي - هو عنايته برصد المادة العلمية دون أن يصنع لها أطرا تجمعها ، ولهذا تجد المعلومات متناثرة ، فيذهب جهده الذي بذله في هذا السبيل .


إهمال الافتراض

وضع الافتراضات مهم في البحث العلمي ، ومن أهمها افتراض مكان وجود المادة العلمية من قول ورأي ، أو معلومة ، فكثيرا ما أرى أن بعض الباحثين يقصر نظره في الأماكن الواضحة ، بمعنى أنه ينسب وجود المسألة إلى باب ما ، ولا يفكر في احتمال وجوده في باب آخر ، فالعلماء - رحمهم الله - في كتبهم تتناثر بعض أقوالهم ، لا لسوء منهجية لديهم ، بل لأن سياقا ما في باب ما ، فرض ذكر هذه المسألة ، ومن ثم استغنى عن ذكرها في الباب الأم ، لكونها ليست من أصول الباب ، بل هي من فروع الفروع ، لذا على الباحث أن يوجد الافتراضات المناسبة في وجود القول أو المسألة في الأبواب الأخرى ، وذلك بالتصور الكلي للمسألة وتعلقاتها بغيرها من الأبواب .

الاقتصار على فهوم الآخرين

بعض الباحثين همّه إنهاء المسألة التي بين يديه ، ولذا لا يكلف نفسه العناية بالنصوص ، وقراءتها ، بل يعمد إلى فهم غيره للنص ، ليأخذ زبدة قوله فيها ، وهذا فيه تعطيل لقدرات الباحث ، وإبعادها عن مواطن التحليل والدرس ، فلم لا يفترض الباحث أنه فهم غيره ربما جانبه الحق فيه ، أو أنه فهمه من زاوية ضيقة ، ربما لا تكون مرادة لدى المؤلف ، وفي هذا السياق أذكر أني تتبعت مسألة في كتاب ، ووجدت محققا يحيل إلى رأي المبرد في المقتضب ، ورجعت للمقتضب في نفس الإحالة ، وإذا رأي المبرد مناقضا للفكرة تماما ، ووجدت آخرين نقلوا نفس الإحالة دون تثبت لرأي المبرد .
لذا فإن لرجوع الباحث إلى النص فوائد عدة ، من أهمها : التمرس على قراءة النصوص ، ومحاولة استنطاق فكرتها ، وتجنب الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها بسبب الآخرين .

الوثوق المطلق بالنص المحقق

قراءة النص هامة جدا ، والتحقيق والتمحيص فيه من الأمور المهمة للباحث ، فكم من نص محقق ، كُتب بصورة غير ماكتبه مؤلفه ، أو أنه ناله سهو من المحقق ، أو خلط ، أو تقديم وتأخير ، فالدقة في قراءة النص واستيعابه هي إحدى الدوال على تفسيره ، وفهم مراده ، لأن بعض المحققين يفوته أشياء وأشياء ، بل إنك تجد اختيارات في النسخ خاطئة ، إذ يقدم مرجوح على راجح ، وكلمة أضعف على كلمة أسد .
لذا على الباحث أن يقرأ النص بروية ، محركا طاقته الذهنية في الوصول إلى فهم سوي له ، ومن اللطائف في هذا أني قرأت ذات مرة في أول خمسة أسطر من نص محقق خلطا لمحقق معروف ، حيث جعل البيت الشعري من كلام المرلف المنثور ، وغير ذلك لا يخفى على المتابعين في هذا الشأن .


النقل المفرط

تضيع شخصية بعض الباحثين في كثرة نقله للنصوص ، فقد يكون شغله كم تكون صفحات المبحث ، أو الموضوع الذي يريد بحثه ، ولا يفكر في الإجادة فيه ، بل أجد أن البعض لا يفكر لحظة ، هل هذا النص يثري الموضوع أو لا ؟ ، بل تجد بعض الباحثين يسرد نصوصا كثيرة لفكرة واحدة ، وكان يكفيه أن يشير إلى العالم القائل بها ، أو الإحالة إلى مصدرها .

فالمطلع على الرسائل يرى أنه لو قيل لكل نص : اذهب إلى مقرك ، لمابقي من الرسائل إلا اليسير ، ويبدو لي أن الباحث لو اتجه إلى قراءة النصوص في الفكرة المراد بحثها ، ومحاولة تفهمها ، ثم بعد ذلك يصوغها بفكره في ضوء ماتوصل إليه ، فسيكون لعقله حيئذ مقام في رسالته ، فالإبداع لا يكون في استحداث الجديد فقط ، بل في إعادة صياغة الأشياء من جديد ، وترتيبها ، وتفكيكها ، ومحاولة تقديمها بصورة أخرى ، لأن ذلك قد يكون نافذة لأفكار أخرى لك أو لغيرك .

الإفراط في الحواشي

كل أمر يزيد عن حده ، يكون أثره سلبيا ، وإن كان الواضع أراد الاستفاضة من أجل الإفادة .
إن المطلع على بعض الكتب المطبوعة ، والرسائل ، يجد أن الرسالة أو الكتاب كتابان في كتاب ، ويبدو لي أن الأمر اختلط حقا لدى بعض الباحثين ، حيث أصبحت حواشيه ، كما يفعل شراح القرن العاشر ومابعده ، ونسي ماهية الحواشي في وقتنا الحالي ، إذ هي مفاتيح لما يحتاج إليه القارىء ، وإحالات توثّق العمل ، لا أن يكون الهدف هو التزيّد ، وتضخيم العمل ، فالإجادة لاتقاس بالكم ، بل بالكيف .
ولا يزال كثير من الباحثين لا يكاد يفرق بين دراسة في بحثه أو تحقيق مخطوطة ، فالعمل فيهما لديه سيان .
انظروا إلى كتاب المقتضب ، وكيف صنع منه العلامة الكبير محمد عبدالخالق عضيمة مايساوي النص المحقق عشرات المرات ، وكم كنت آمل لو أن التعليقات التي ملأت الحواشي لابن ولاد ، أخرجت وقتها في كتاب محقق ، لا أن ننتظر سنوات حتى نرى كتاب الانتصار مطبوعا .
وهذه رسالة بين يدي ، بذل فيها الباحث جهدا كبيرا ، يشكر عليه ، لكن - برأيي - أن عمله ليس هذا مكانه ، فها أنا أقلب ألفي صفحة ، في كل صفحة سطر واحد من النص ، ثم يخرج القول ، ويذكر صاحبه ، ويترجم له ، والبيت الشعري - إن كان فيها - ثم يسطر عشرات المصنفات التي ورد فيها هذا البيت ، ويذكر الاختلاف في قائل البيت ، ويترجم لكل واحد .. وهلم جرا .
إن بعض الأعمال التي نقوم بها في الحواشي ، تكون على حساب قراءة النص قراءة جيدة ، أو سبك فكرة بصورة واضحة .
إن وضع فاصلة في مكانها الصحيح الذي يتميز بها المعنى ، وتتضح بها المقال خير من حاشية لا تحمل أي قيمة .
يا ترى : هل الباحثون يركزون حقا في علامات الترقيم ، ويعتنون بوضعها في مكانها الصحيح ، من أجل أن تتضح الأفكار وتبين غوامضها ؟ !!

برأيي إن مفهوم الحاشية يحتاج إلى إعادة نظر وضبط ، وتوضيح لمدلولها الحقيقي ، إذ لا نريد أن نكون شارحين من حيث لا نشعر .


التوثيق المستمر

مما يؤخر الباحث كثيرا رجوعه الدائم لكل مبحث أنهاه ، لا لأجل القراءة الفاحصة ، أو أن نظرة تغيرت لديه ، أو ترجح لديه قول آخر ، بل رجوعه من أجل الاستزادة في التوثيق ، فيما لاحاجة لتوثيقه ، كأن يزيد مصدرا آخر في بيت شعري ، قد ملأه وقتها ، أو أن يضع مصدرا في توثيق قول ، قد وثّقه من قبل فيما هو أهم منه .

وهذا مردّه إلى ذهاب منهجية ف طريقة التوثيق ، إن في الأقوال ، وإن في الأبيات ، وأمر آخر في هذا الرجوع ، ينطلق من باب " هو جهد لا بد من أن أسجل كل نقطة فيه " .
والحق أن ليس كل جهد يلزم تقييده ، بل المسألة مرتبطة بالقيمة لهذا الجهد .

خطة البحث ، وخطة التفكير

مامن باحث إلا ويطالب بخطة لرسالته أو بحثه ، وهذا يعد من أبجديات الأعمال البحثية ، ولن أقف عندها ؛ لكونها من المعلوم بالضرورة .
مايهمني هنا خطة التفكير ، وهي مرحلة تأتي بعد مرحلة استقراء النصوص ، وجمعها ، وتصنيفها في البحث ، بل هي مرحلة سابقة لكتابة البحث ، وهي الآلية التي ينبغي أن يسلكها الباحث في بحثه ، من ذلك :
- طريقة تحليل المسائل ومناقشتها .
- طريقة التخريج بكل أنواعه .
- أسلوب البدء والانتهاء .
- الترتيب الداخلي للمسألة .
- العناية بعدم التداخل في المادة العلمية بين المباحث والفصول ، بحيث لا يكون هناك تكرار ، بل يحدد ماينبغي أن يكون في هذا الفصل أكثر من غيره ، وذلك بالنظر إلى الارتباط الحقيقي بين عنوان الفصل أو المبحث وبين المسائل الجزئية فيه .
- المنهجية في عنوانات المسائل ... إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة في التفكير السابق لكل مبحث ومسألة في كيفية التناول والعرض .

إن المشكلة التى أراها لدى بعض الباحثين من خلال قراءة رسائلهم ، أن المنهجية تفرضها الصدفة في المسائل الأول ، ثم لا يشعر بقيمة المنهجية إلا بعد أن قضى شطرا من رسالته .
وهذه الآلية تنطبق على الدراسات والنصوص المحققة ، بل في أدق التفاصيل ينبغي تحديد صورتها ، كالحواشي مثلا ، وهي التي أراها في كثير من الرسائل يشوبها الاضطراب المنهجي ، فالباحث لا يحكمه منهج ، بل إن المسائل هي التي تسيّره فيها ،
وينبغي أن تطرد هذه المنهجية حتى في جزئيات الشكل والنمط للأحرف ولكل عنوان في الرسالة .

التساؤل الضائع

عنوان غريب ، لكنه حقيقة موجودة في عالم البحوث ، وأعني به سؤال الباحث نفسه : لم صنعت هذا في هذه المسألة ؟ لم خرجت بهذه الطريقة ؟ لم اختصرت النص ؟ لم لم يكن عملي بطريقة مغايرة ؟ لم اخترت هذه المنهجية ؟ .... ؟ ؟

هذه وأسئلة أخرى ضائعة في ذهن بعض الباحثين ، ولهذا تجد حرجهم باديا على وجوهم حال المناقشات ، فبعضهم يعمل الشيء ، ويستبعد السؤال من القارئ أو الناقد ، وليس معنى كلامي هذا تأسيس الخوف لدى الباحث ، بقدر ماهو حب في إشعال الحاسة النقدية لدى كل باحث ، حتى يكون كاتبا وحكما وخصما في آن واحد ، حتى يتدرب على الحوار البناء من خلال نصه الذي كتبه .

في أعمالي أفترض أسئلة حول صنعي ، ثم أوجد لها إجابة لكل سائل ، قد يطرح سؤاله في أي لحظة ، وهذا ماساعدني على القراءة النقدية السريعة للبحوث الأخرى .

أتمنى أن نضع التساؤلات التالية أمامنا :
كيف أفعل ؟
ولم فعلت ؟

التعالي على الملاحظة
ما كل عمل تعمله يعدّ صائبا ، حتى لو وافقك فيه مشرفك ، فثمة أمور يكون خطؤها أقرب من صوابها ، وعليها من الملاحظات الكثير ، ما لا تقدر على الرد عليه ، نظرا لخروجه عن منهجية واضحة فيه .
أقول هذا ، لما أراه من البعض حين يريني جزءا من رسالته ، ويطلب الرأي فيه ، وحين أقرأ ماكتبه ، وأسرد الملاحظات ، تجد مدافعته تزداد ، ويحاول المحاربة ليثبت أن مافعله هو الصواب بعينه .
والمسألة أهون بكثير ، فعلى الباحث من يريد الارتقاء ببحثه أن يختبر جزءا من عمله لدى من يثق بعلميته ، فلربما فاته شيء ما ، وفطن له غيره ، والبحث حين يختبر بأكثر من نظر ، يزداد حسنا وجمالا .
أهم أمر أن تعلم أن النظرة الصائبة قد تغيب عنك ، وتستوطن في عقل غيرك ، حينئذ ستجد نفسك أكثر رقيا .

الترابط المفقود
أقرأ في بعض الرسائل تباعدا في الموضوع الواحد ، فتجد الباحث لا يرتب أفكاره داخل المبحث أو القضية التي يتحدث عنها ، فترى قفزات كبيرة في الموضوع ، قد يكون من الأسفل للأعلى ، وأحيانا يقدم مايجب تأخيره ، أو يؤخر مايجب تقديمه ، لهذا فالانتقال من فقرة إلى أخرى يجب أن يكون سلسا ، ذا ترابط في الفكرة ، ولا يكون ذلك حتى يسجل الباحث أهم النقاط التي ينوي الحديث عنها ، ومن ثم يصوغها حسب أهميتها ، لا كما تمليه الكتابة العابرة ، أو حسب إملاء الفكر والتفكير .
فالتفكير والفكر لا بد لهما من تنظيم وترتيب حتى يكون عطاؤهما مرضيا ومقبولا ومؤثرا .

AHMED ADEL
Dec-07-2006, 09:00 AM
هذه خواطر لاحد الباحثين من خلال تجاربه وخبراته في مجال البحث العلمي