عرض مشاركة واحدة
قديم Feb-20-2007, 09:22 AM   المشاركة2
المعلومات

السايح
مشرف منتديات اليسير
محمد الغول

السايح غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 16419
تاريخ التسجيل: Mar 2006
الدولة: فلسطيـن
المشاركات: 1,360
بمعدل : 0.21 يومياً


افتراضي تكملة

بإنشاء مسجد في القدس(28). ومنذ ذلك الحين فقد شهدت مدينة القدس حركة علمية نشطة بفضل مكانتها الدينية، قال يعلى بن شداد بن أوس : وشهدت مع معاوية ببيت المقدس فجمع بنا، فإذا جُلُّ من في المسجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(29).
واهتم خلفاء بني أمية اهتمامًا خاصًا ببيت المقدس، وكان أعظم مآثرهم فيها بالطبع بناء قبة الصخرة سنة 72ه/ 691م، ثم بناء المسجد الأقصى بعد ذلك بسنوات، وفي ظلهم استمر العطاء العلمي للتابعين وأتباع التابعين في القدس(30).
وقد حفل المسجد الأقصى في العهد الأموي بقُراء القرآن الكريم والمُحدّْثين والمفسرين والفقهاء، من أمثال أبو عمر سليمان بن عبدالله الأنصاري الفلسطيني، والوليد بن عبدالرحمن الجرشي، ومقاتل بن سليمان(31).
وفي دراسة حديثة تشير إلى أن عدد علماء القدس وقتئذ بلغ (30) عالمًا(32). وهناك عدد غفير من الصحابة الذي علّموا ببيت المقدس ومنهم من توفوا فيها.
ومن المعلوم تاريخيًا أن حكم بني أمية انتهى سنة 132ه، وقد كان لهم قصب السبق في وضع أسس التعليم وتنشيط الحركة العلمية، وقد تمثل ذلك في الاهتمام بإقراء القرآن، وبدء تدوين الحديث الشريف، والسيرة النبوية، واتخاذ اللغة العربية لغة رسمية في الإدارة والمعاملات، كما ظهرت أساليب متميزة في الكتابة النثرية وجمع التراث العربي في الشعر والأدب.
ومع بداية العصر العباسي حدثت بعض التغيرات في نشاط المراكز العلمية في مدينة القدس، ففي القرن الثاني الهجري شهد بيت المقدس حركة علمية نشيطة تمثلت في(33) :
1- زيارة عدد كبير من العلماء والأئمة من مختلف البلدان إلى المسجد الأقصى كالأوزاعي والليث بن سعد والإمام الشافعي.
2- ازدهرت القراءة في المسجد الأقصى ازدهارًا شديدًا وخاصة من أهل فلسطين.
3- صار المسجد الأقصى قبلة طلاب العلم من بلاد الشام وخارجها.
ولكن هذا النشاط العلمي والتعليمي في المسجد الأقصى لم يلبث طويلاً، حيث تراجع بعض الشيء، وخاصة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وعلى سبيل المثال فإن مجير الدين الحنبلي لا يذكر من علماء بيت المقدس سوى واحد في القرن الثالث وواحد في القرن الرابع(34)، وأغلب الظن أنه يقصد علماء الدين: وزاد هذا الانحسار العلمي في أواسط القرن الرابع الهجري بصورة ملفتة للنظر – إبان الحكم الفاطمي – حيث يصف "المقدسي" القدس بأنها قليلة العلماء(35).
وربما ترجع ظاهرة قلة علماء القدس في القرنين الثالث والرابع الهجريين إلى العوامل الآتية:
1- هجرة بعض علماء فلسطين إلى الأقطار الأخرى كالقاهرة ذات الثقل العلمي وموئل المراكز العلمية الكبرى، وبغداد ودمشق حيث كانتا أكثر اجتذابًا للعلماء.
2- ضعف الحركة العلمية في البلاد نتيجة للحروب التي نشبت بين الفاطميين والقرامطة.
وكانت العلوم الشرعية هي السائدة – بطبيعة الحال – طوال هذه الفترة في الدراسة والتعليم بالمسجد الأقصى، وتشير إحدى الدراسات الحديثة إلى أن حوالي 95% من علماء الشام وفلسطين (القدس) في القرون الثلاثة الأولى للهجرة كانوا يُعلّمون الدين وعلومه والأدب واللغة والتاريخ، أما مدرسو العلوم الطبيعية والتجريبية فلم يتجاوز عددهم 5% في أحسن الحالات(36).
ومما يلفت النظر أنه في القرن الرابع الهجري حدث انحسار نسبي للدراسات الدينية، في مقابل تطور في الدراسات التطبيقية، ويذكر ابن أبي أصيبعة وجود عدد كبير من أطباء القدس، منهم على سبيل المثال: محمد بن أحمد بن سعيد التميمي الذي درس الطب على يد الراهب زخريا ابن ثوابة، وأبو محمد بن أبي النعيم أبو علي ... إلخ(37). وهذا حق حيث اهتم الفاطميون بإنشاء بيمارستانات في القدس(38)، والتي كانت بمثابة معاهد علمية لتدريس العلوم الطبية.
وكذلك زادت حركة التأليف في العلوم الجغرافية في هذا القرن (القرن الرابع الهجري)، ولعل كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" الذي ألفه الرحالة الجغرافي محمد المقدسي البشاري يعتبر من أفضل الكتب التي وضعها الجغرافيون العرب القدامى.
وشهد القرن الخامس الهجري انتعاشًا كبيرًا في العلوم الدينية، ولاسيما في بيت المقدس، حيث غدا المسجد الأقصى – من جديد – مركزًا لحياة علمية نشطة، ضمت علماء كثيرين من فلسطين ومن خارجها، منهم الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي(39)، وأمّ البيت وعلّم فيه عددًا غفير ًا من العلماء من كل حدب وصوب، من الأندلس وفارس والحجاز، من أمثال الإمام الطرطوشي الأندلسي، والإمام أبو حامد الغزالي، والإمام الشيرازي ، وغيرهم كثيرون(40).
كما شهد القرن الخامس الهجري أيضًا نشاطًا في ميدان الأدب من شعر ونثر، ويؤيد ذلك ما ذكره ابن العربي "لقيت بها بحر أدب يعب عبابه، ويغيب ميزابه، فأقمت بها لارتوي منه نحوًا من ستة أشهر(41).
أما عن مؤسسات التعليم في مدينة القدس – خلال تلك الفترة – فيمكن تحديدها في مؤسستين – شأنها شأن سائر البلدان الإسلامية – هاتان المؤسستان هما :
1- الكُتّاب : حيث أخذ على عاتقه مهمة تعليم القراءة والكتابة للأطفال والصبيان ومحو أميتهم، فضلاً عن تعليمهم مبادئ الدين الإسلامي،وشيئًا من النحو والحساب والحكم والأمثال، لتأهيلهم لمواصلة تعليمهم في المؤسسة الثانية (المسجد).
2- المسجد : وكان مركز التعليم الأساسي آنذاك في البلدان الإسلامية، فقد بدأ بناء المساجد في القدس من زمن بعيد، ومن المساجد الأولى في القدس المسجد الذي بناه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الحرم الشريف، ثم جدد الأمويون بناء المسجد الأقصى، وبنوا مسجد قبة الصخرة.
لقد كان المسجد الأقصى موئلاً للعلم في مدينة القدس، وكان عماد الحركة الفكرية فيها، وقد قام بدور كبير في دفع هذه الحركة وتطورها، لقد كان المسجد الأقصى جامعة إسلامية، إذا جاز لنا أن نطلق اسم جامعة على المسجد التعليمي، وكانت له رسالة علمية، وقد قام بها خيرقيام وأداها حقًا على ما يرام، ولا غرو في ذلك، فقد كان الأقصى يمثل مظهرًا حضاريًا وفكريًا، ومظهرًا من مظاهر التمدن الإسلامي، ويقوم بدوره في دراسة التراث الإسلامي والحفاظ عليه، وبهذا كان له أثر كبير في خدمة الثقافة الإسلامية ورعايتها وتنشيط الحركة العلمية وصيانتها.
ويضاف إلى هاتين المؤسستين الخوانق التي أقامها محمد بن كرام (المتوفى سنة 255ه/ 869م) وأتباعه الكرامية في القدس للعبادة والذكر والتعليم(42). ويضيف البعض(43) إلى ذلك "دار العلم" التي أنشؤوها الفاطميون بالقدس على غرار دور العلم التي أنشأوها في القاهرة وطرابلس لنشر المذهب الشيعي.
أما بالنسبة للكتب التي كانت متداولة في القدس – وفي بقية البلدان الإسلامية – بمعناها المعروف، فقد بدأت في الظهور في القرن الثاني الهجري، ثم زادت في القرون التي تلته، وكان معظمها يتصل بتعليم الشيوخ الثلاثة : الزهري (ت 124ه) الأوزاعي (ت157ه) الوليد بن مسلة (ت 195ه). ثم بدأ يظهر من الكتب ما يعرف بالمسند وهي الكتب التي تجمع أحاديث كل صحابي على حدة، ثم ظهرت الكتب التي تعرف بالمجاميع وقد رتبت فيها الأحاديث حسب الأبواب، ثم ظهرت كتب الطبقات التي رتب فيها الرجال في طبقات(44).
1/2/2 الفترة الثانية : وتشمل العصرين الأيوبي والمملوكي (583-922ه/ 1187-1516م):
يعُدّ دخول صلاح الدين الأيوبي مدينة القدس - بعد انتصاره على الصليبيين سنة 583ه/ 1187م - بداية جديدة للحياة العلمية التي عمت ديار الشام عامة وفلسطين خاصة والقدس على وجه الخصوص.
ولم تمنع صلاح الدين مشاغله الحربية وهمومه السياسية من الاهتمام بالعلم وأهله، فأعاد بناء ما خربه والصليبيون من دور علم وما أحرقوه ودمروه من خزائن كتب، وما هدموه من مدارس ومساجد ومنشآت حضارية تمثل الوجه المشرق للحضارة الإسلامية.
واستهل صلاح الدين عهده في فلسطين بعملين جليلين هما(45).
1- إنشاء المدارس.
2- العمل على تزويد المسجد الأقصى بالكتب الدينية والعلمية .
فقد عمد إلى تحويل الدار التي بناها فرسان المنظمة الصليبية العسكرية المسماه "الاستبارية" إلى مدرسة كبرى هي "المدرسة الصلاحية" لتدريس الفقه الشافعي بها، ويسجل هذه الواقعة العماد الأصفهاني بقوله : فاوض السلطان (يقصد صلاح الدين) جلساءه من العلماء الأبرار والأتقياء الأخبار في مدرسة للفقهاء الشافعية ورباط للعلماء الصوفية، فعين للمدرسة الكنيسة المعروفة بصند حنّة(*) عند باب الأسباط، وعين دار البطرك للرباط ووقف عليهما وقوفًا(46).
ويشير مجير الدين الحنبلي إلى حرص صلاح الدين على تزويد هذه المؤسسات التعليمية بالكتب: إن السلطان صلاح الدين أمر بهدم البناء الذي أقامه الصليبيون في الصخرة، وأعادها كما كانت ورتب لها إمامًا حسن القراءة ووقف عليها دارًا وأرضًا وحمل إليها وإلى محراب المسجد الأقصى مصاحف وختمات وربعات شريفة(47).
واشتهر سلاطين بني أيوب بحبهم للعلم والعلماء – وعلى رأسهم صلاح الدين – الذي جمع حوله رجال العلم وكان يحضر مجالسهم ويستمع إليهم ويشاركهم في أبحاثهم(48).
ومن النصوص السابقة يتبين بوضوح التطورات التي حصلت في القدس في العصر الأيوبي، والتي تمثلت - بداية - في عناية صلاح الدين بإعادة الحياة العلمية والدينية إلى المسجد الأقصى ومده بالمصاحف الشريفة، وأوقف عليه الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليه، كما أنشأ كثيرًا من مؤسسات التعليم الأخرى وعلى رأسها المدارس، فأنشأ المدرسة الصلاحية والخانقاه الصلاحية، ومكتبًا لتعليم الأطفال.
وقد سار الأيوبيون على سنة صلاح الدين في تأسيس المعاهد العلمية وتزويدها بالمدرسين والكتب المخطوطة، فكانوا محبين للعلم وأهله، فالعزيز عثمان الذي خلف أباه صلاح الدين في السلطنة، يقول عنه ابن خلكان "إنه سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وسمع بمصر من العلامة أبي محمد بن بري النحوي وغيرهم(49). وقد جدد الملك المعظم عيسى بن أحمد بن أيوب بناء المدرسة الناصرية وجعلها زاوية لقراءة القرآن والاشتغال بالنحو، ووقف عليها كتبًا في جملتها إصلاح المنطق لابن السكيت بخط الإمام النحوي ابن الخشاب(50).
ومثل هذا يقال عن بقية سلاطين بني أيوب وخاصة السلطان الكامل الذي قال عنه المقريزي "كان يحب أهل العلم، ويؤثر مجالستهم، وعنده شغف بسماع الحديث النبوي، وكان يناظر العلماء، وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظي عنده(51).
لذا لا عجب إذا اشتهر من بني أيوب أنفسهم أعلام في شتى ضروب المعرفة، فمنهم المؤرخ المشهور أبو الفدا، وهو عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل نور الدين علي بن جمال الدين محمود بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب (ت 732ه/ 1331م) وهو صاحب كتاب "المختصر في أخبار البشر".
وقد حاكى سلاطين المماليك سلاطين الأيوبيين في بناء المدارس، وكان المماليك – رغم كونهم من أصول غير عربية متعددة – أصحاب فضل في ازدهار النشاط العلمي في بلدان العالم الإسلامي، حيث اتسم عصرهم بالأمن والاستقرار، وهما الدعامتان الأساسيتان لأي نشاط علمي وحضاري. "وخير ما يدل على ازدهار الحياة العلمية على عصر سلاطين المماليك، عظم الثروة العلمية التي وصلتنا من ذلك العصر بالذات، وما زالت دور الكتب في أنحاء العالم كافة مشحونة بمئات المخطوطات التي ترجع إلى ذلك العصر، والتي تناولت معظم ألوان المعرفة : الأدب والتاريخ والجغرافيا والعلوم الدينية والطب والفلاحة والمعارف العامة وغيرها(52).
وكانت هذه المؤلفات تدرس في المدارس التي أنشأها سلاطين المماليك، وخاصة العلوم الدينية، التي قصد الحكام باقامتها التقرب إلى الله وكسب الثواب.
وجملة القول إن أبرز التطورات في مجال الحركة العلمية والثقافية في هذه الفترة تمثلت في الاهتمام بالمساجد وخاصة المسجد الأقصى، وإنشاء المدارس ، ففي هذه الفترة أخذ المسجد الأقصى يغص من جديد بالعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد أورد مجير الدين الحنبلي في الجزء الثاني من كتابه الأنس الجليل سيرًا مختصرة لحوالي (440) عالمًا وخطيبًا وقاضيًا ومؤلفًا ممن عاشوا وعلّموا في بيت المقدس منذ الفتح الصلاحي حتى سنة 900ه/1494م(53). والمدارس تطور جديد في العالم الإسلامي حدث بعد الأربعمائة من سني الهجرة – على حد قول المقريزي(54) – حيث بدأت المدارس في الظهور وقاسمت المسجد الأقصى عملية التدريس والتعليم.
وكان الهدف من إنشاء المدارس وكثرتها – خلال تلك الفترة – هو تدعيم المذهب السني ضد المذهب الشيعي، وكان صلاح الدين شافعيًا متحمسًا لمذهبه، لذا يرجع له الفضل في إنشاء أول مدرسة في القدس لتدريس هذا المذهب، وهي المدرسة الصلاحية سنة 588ه. ومهما يقال عن أهداف صلاح الدين من إنشاء المدارس، فإن التوسع في إقامة هذا النوع من المؤسسات جاء في حد ذاته مظهرًا قويًا لرقي الحياة الفكرية في عصر الأيوبي(55).
وكانت المدارس في هذه الفترة تعادل في مستواها جامعات اليوم،فهي كليات ومعاهد للتعليم العالي، وكان لكل مدرسة مذهبها الذي تتبعه، وكان بعضها يشتمل على أربع كليات للمذاهب الأربعة، حيث كانت مدارس دينية بالدرجة الأولى، فانصب جُل اهتمامها على تدريس العلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير وغيرها، ولكن هذا الوضع لم يلبث أن تطور حتى غدت المدارس مراكز لتعليم وتدريس النحو والفلسفة والعلوم الطبيعية كعلوم الحساب والجبر والميقات، فضلاً عن العلوم الدينية.
كذلك شهدت الفترة نشاطًا ملحوظًا في علوم اللغة العربية وخاصة النحو والصرف، واشتهر من علماء اللغة في ذلك العصر أبومحمد بن بري المتوفى سنة581ه/1185م، وأبو الفتح البلطي المتوفى سنة596ه/1200م، وابن عبدالمعطي الزاوي المتوفى سنة 628ه/1231م، وابن الحاجب المتوفى سنة 646ه/1248م(56).
ويفيدنا البلوي في كتابه "تاج المفرق" بمعلومات قيمة عن العلوم والكتب التي كانت تدرس في هذه الفترة، وهي كتب الحديث والطب والتصوف(57). وكذلك أخذ موضوع "فضائل بيت المقدس" يحتل مكانًا مرموقًا في مجالس التدريس، وخاصة بعد الفتح الصلاحي لبيت المقدس، حيث ألقى تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين سنة 583ه/ 1187م مسئولية كبيرة على علماء العالم الإسلامي من فقهاء ومحدثين ومؤرخين وغيرهم، ذلك أن عروبة الأرض المقدسة وإسلاميتها أصبحتا مسألة يعوزها التجذير بعد تسعين سنة من الاحتلال الصليبي الذي عمل على تقليص الوجود العربي والإسلامي ومحوه من الأرض المقدسة، ولما كنا نرصد تاريخ الحركة العلمية في القدس فتجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي قام به علماء المسلمين وفقهاؤهم في وضع المصنفات التي تدعو إلى الجهاد وتحث عليه واستثاروا مشاعر الناس وهممهم ووجهوها نحو الأرض المقدسة لاستنقاذها وتحريرها، وإمعانًا في ترغيب الأمة بالثواب من الله، صنفوا في فضائل المدن وعلى الأخص مدينتي القدس والخليل لما لهما من مكانة مقدسة عند المسلمين، وهكذا وضع هؤلاء العلماء والفقهاء سواء كانوا من بيت المقدس أو من خارجها سلسلة من الكتب سميت ب "كتب الفضائل" وافتتح التأليف في هذا الفن محمد بن أحمد بن محمد الواسطي المقدسي (410ه/1019م) خطيب المسجد الأقصى، بكتابه الموسوم "فضائل القدس" وهو أقدم كتاب مستقل عن فضائل القدس، تحدث فيه عن الأماكن المقدسة وفضلها، وفضل القدس والصلاة فيها وخاصة المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة. وكانت كتب الفضائل تدرس في المسجد الأقصى وفي المدارس، ومن أشهر هذه الكتب(58).
1- باعث النفوس إلى زيارة القدس المحروس، لبرهان الدين الفزاري المتوفى سنة 729ه/1328م.
2- مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام، لأحمد بن محمد بن هلال المقدسي المتوفى سنة 745ه/1344م.
3- فضائل القدس، لأبي الفرج عبدالرحمن ابن علي بن الجوزي المتوفى سنة 597ه/1201م.
4- اتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى لشمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي السيوطي المتوفى سنة 880ه/1475م.
5- روضة الأنس في فضائل الخليل والقدس لعارف الشريف المتوفى سنة 1383ه .
وقد كثرت الكتب التي كانت تدرس في هذه الفترة، وزادت زيادة كبيرة، ويضيق المجال هنا عن حصرها؛ وتكفي الإحالة إليها(59).
وقصارى القول : يعتبر العصران الأيوبي والمملوكي قمة التطور في النشاط العلمي في فلسطين بصفة عامة، وفي القدس بصفة خاصة، فأنشئت فيهما مؤسسات التعليم على اختلافها، وأخذ المسجد الأقصى مكانته المرموقة جامعة إسلامية، وزاد عدد العلماء زيادة كبيرة لم تبلغها أية فترة أخرى، وزاد عدد المؤلفات والمصنفات، وهذا كله كان له كبير الأثر في تطور الحركة العلمية والتعليمية والثقافية في مدينة القدس.
1/2/3 الفترة الثالثة : العصر العثماني (922- 1335ه/1516-1917م) :
استولى العثمانيون على بلاد الشام بما فيها فلسطين سنة 922ه/1516م، واستمر حكمهم فيها أربعة قرون، كان القرن الأول من هذه القرون الأربعة قمة الازدهار للحركة العلمية والثقافية في بيت المقدس، حيث اهتم السلطان سليمان القانوني (926-974ه/1520-1566م) بالقدس فأنشأ بها كثيرًا من المنشآت التعليمية وبنى سور القدس وعمر المسجد الأقصى وظلت الحركة العلمية نشطة في المسجد الأقصى طوال هذا القرن، وفي عهد سليم الثاني (1566-1574م) ومراد الثالث (1574-1595م) استمرت هذه المنشآت والنشاطات العلمية.
ومن المنشآت المهمة التي أنشأتها "روكسلانة" زوجة السلطان سليمان القانوني "تكية خاصكي سلطان" التي كانت تحوي من ضمن ما تحويه مدرسة(60).
ومن نهاية القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة العثمانية، حيث أخذت الدولة في التقهقر على إثر وفاة سليمان القانوني (1566م)، فقد أصيبت بأول انكسار حربي عندما هزم الأسطول الإسباني الأسطول التركي في معركة لببانتو البحرية عام 1571، وتوالت الهزائم عليها في حروبها مع فرنسا والمجر وروسيا منذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي حتى أوائل القرن العشرين، وأخذ الضعف السياسي والتدهور الاقتصادي يسريان في جسم الدولة خلال تلك الفترة، حتى أطلق عليها اسم "رجل أوروبا المريض"، وكانت أكبر هزيمة لها في الحرب العالمية الأولى وانهارت أمام ضربات الجيش البريطاني في هذه الحرب،وانتهى الأمر بتمزيق أوصال الدولة العثمانية، وورثت كل من بريطانيا وفرنسا معظم أملاك الدولة العثمانية، وكانت فلسطين من نصيب بريطانيا.
وقد انعكست الأوضاع الاقتصادية على كل أقطار الدولة العثمانية ومنها فلسطين، مما كان له تأثيراته السلبية على أوضاع التعليم والحركة العلمية في فلسطين، وبدأ الاضمحلال التدريجي للأوقاف التي وقفت على المدارس وغيرها من دور العلم حتى توقف كثير من المدارس عن العمل، وأصبح التعليم في القدس يعتمد أساسًا على المساجد، وعلى عدد قليل من العلماء الذين حاولوا أن يبقوا شعلة العلم مضيئة في هذه البلاد.
وفي القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين/ السابع عشر والثامن عشر الميلاديين بدأت الحركة العلمية في فلسطين – بما فيها القدس – تسير في خط متراجع، وأصبح العلم والتعليم في تقهقر، وقل عدد العلماء في فلسطين وخاصة في القدس، فقد أورد صاحب كتاب "تراجم أهل القدس في القرن الثاني عشر" الشيخ حسن بن عبداللطيف الحسيني – مفتي القدس (ت 1224ه/ 1809م) – تراجم ثمانية وثلاثين عالمًا من علماء القدس في ذلك القرن(61). وهو عدد قليل إذا ما قورن بعددهم في القرون السابقة.
أما عن المدارس التي أنشئت في القدس في العصر العثماني فكانت قليلة العدد، وهذه المدارس هي : القرقشندية، الدقمرية، المرمرية، المنصورية، الصافنية، الحجرحية، الماوردية، الأحمدية، مدرسة مراد باشا، مدرسة الخانقاه الأسعدية(62).
ولكن تجدر الإشارة هنا في هذا المقام إلى أن المسجد الأقصى احتفظ بمكانته كنقطة جذب للعلماء المسلمين من بلاد العالم الإسلامي المختلفة، ومن أبرز العلماء الذين زاروا المسجد الأقصى في القرن الحادي عشر الهجري، أحمد ابن محمد المقري صاحب كتاب "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" وألقى عدة دروس بالمسجد الأقصى والصخرة المشرفة(63).
وفي القرن الثاني عشر الهجري زار القدس كل من إمام الصوفية عبدالغني النابلسي (1101ه) والسيد مصطفى البكري (1162ه) الدمشقيان، كما زارها مصطفى أسعد اللقيمي الدمياطي (1143ه)(64).
وهكذا ظل المسجد الأقصى قطب الرحى في الحركة العلمية في هذه الفترة وكان يؤمه العلماء من مختلف البلدان، ويلقون دروسًا فيه، وممن أمّ المسجد الأقصى للتدريس فيه خلال هذه الفترة سنة 1303ه - 1885م الإمام الشيخ محمد عبده(65). واستمرت هذه الحركة بلا انقطاع خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، ومن أشهر علمائه في هذه الفترة : أسعد الإمام، وعبدالرزاق العفيفي، ويعقوب البديري، وعبد القادر أبو السعود(66).
وكانت موضوعات التدريس في العصر العثماني في القدس تدور حول العلوم الدينية بفروعها المختلفة، وخاصة علم الفقه الذي احتل المقام الأول سواء في التدريس أو التأليف،وكذلك التصوف الذي حظي بإقبال كبير على تدريسه أو ممارسته، "فكبار الشيوخ والفقهاء كان أغلبهم صوفيين، من أمثال العلمي، الدجاني، الجوهري، الخليلي، البديري"(67) .
ويلاحظ بصفة عامة أن المؤلفات التي وضعت خلال هذه الفترة تنقصها روح الابتكار والأصالة، وأن العلماء والمثقفين ظلوا يعتمدون – إلى حد كبير – على كتب الأسلاف، يشرحونها ويختصرونها ويضعون حواشي وذيولاً لها، كذلك يلاحظ على الموضوعات التي طرقها المؤلفون خلال هذه الفترة أنها لم تكن جديدة، ولكنها كانت مكررة لموضوعات العصور السابقة، وهذا يشير إليه فهرس مخطوطات مكتبة المسجد الأقصى الذي يضم حصيلة المخطوطات المتوارثة من العصر العثماني أساسًا(68).
1/2/3/4 الفترة الرابعة : القرن العشرون (1917 – 1998م) :
شهد هذا القرن أحداثًا جسامًا أثرت على المنطقة العربية بأسرها وخاصة فلسطين ومدينة القدس على وجه الخصوص، فبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914م وإعلان الدولة العثمانية وقوفها إلى جانب ألمانيا أخذت دول الحلفاء تتفق فيما بينها لتقسيم ممتلكات الدولة العثمانية، وبدأت بريطانيا بالتفكير في السيطرة على فلسطين.
وقد تمكن الجيش البريطاني بقيادة الجنرال "إدموند ألنبي" من احتلال كافة الأراضي الفلسطينية خلال الفترة الممتدة من تشرين الأول (أكتوبر 1917م) حتى (تشرين الأول (أكتوبر 1918م)(69)، وهكذا انتهى الحكم العثماني لفلسطين بعد أن امتد نحو أربعمائة سنة.
وبنهاية عام 1918م وبانتهاء الحكم العثماني لفلسطين أصبحت البلاد تدار بإدارة عسكرية بريطانية اتخذت من مدينة القدس مقرًا لها. وفي مؤتمر سان ريمو عام 1920م قرر المجلس الأعلى للحلفاء منح بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وبناء على ذلك عينت الحكومة البريطانية السير "هربرت صموئيل Herbert Samuel الصهيوني البريطاني مندوبًا ساميًا على فلسطين وحولت الإدارة العسكرية إلى إدارة مدنية(70).
واستمر الانتداب البريطاني على فلسطين حتى مايو 1948م، وخلال تلك الفترة تغيرت الأوضاع والأحوال السياسية والاقتصادية والعسكرية والتعليمية في كل أنحاء فلسطين، وما يهمنا هنا هو التعرف إلى معالم الأوضاع التعليمية والعلمية في مدينة القدس.
حققت بريطانيا باحتلالها لمدينة القدس في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1917م، أهداف الأوربيين المتمثلة في التحكم في مسار الحياة العلمية والتعليمية في المدينة، وجاء تفويض "عصبة الأمم" لبريطانيا بإدارة المدينة بمثابة مدخل لتحقيق هذه الأهداف.
وقبل بيان الحالة العلمية والتعليمية في القدس خلال فترة الانتداب البريطاني، تجدر الإشارة ابتداءً إلى بيان هذه الحالة قبل مجيء هذا الانتداب، فتفيد إحدى الدراسات الحديثة أنه في عام 1910م كانت في متصرفية القدس (528) مدرسة رسمية وخاصة، وفي إحصائية أخرى تذكر هذه الدراسة أن عدد المدارس عام 1914م كان على النحو التالي : (95) مدرسة ابتدائية رسمية، ثلاث مدارس ثانوية، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى افتتحت مدرسة ثانوية في القدس كتنازل أمام الشعور القومي العربي وإرضاء له، أما المدارس الخاصة فبلغ عددها في العام نسفه (369) مدرسة إسلامية، كان معظم هذه المدارس عبارة عن كتاتيب في المساجد أو في بنايات عامة(71).
وظل نظام التعليم التركي معمولاً به في مدارس القدس حتى عام 1920م، وكان هذا النظام يتلخص في ثلاث مراحل على النحو التالي(72).
1- ابتدائي ومدته ست سنوات.
2- إعدادي ومدته ثلاث سنوات.
3- سلطاني ومدته ثلاث سنوات وبه يختتم التعليم الثانوي ويبدأ التعليم الجامعي.
والجدير بالذكر أن هذا النظام مأخوذ عن نظام التعليم في فرنسا. ثم قامت حكومة الانتداب البريطاني بأول عمل مهم من أجل التعليم في القدس، وهو تأسيس دار للمعلمين سنة 1920م تتولى تدريب المعلمين للمدارس الابتدائية في جميع أنحاء فلسطين، ثم قامت بعد ذلك بوضع نظام جديد للتعليم يتلخص في خمس مراحل على النحو التالي(73).
1- مدارس الحضانة وبساتين الأطفال حتى السادسة من العمر.
2- التعليم الابتدائي الأول ومدته خمس سنوات.
3- التعليم الابتدائي الثاني ومدته سنتان.
4- التعليم الثانوي الأول ومدته سنتان.
5- التعليم الثانوي الثاني ومدته سنتان.
وبانتهاء التعليم الثانوي يتقدم الطلاب لاجتياز امتحان التعليم العالي، وقد تأسس عام 1923م "مجلس التعليم العالي الفلسطيني" ليشرف على هذا الامتحان(74). وكان الطلاب الناجحون في هذا الامتحان يلتحقون بالتعليم الجامعي – وقتئذ – في جامعات الدول المجاورة لفلسطين مثل لبنان وسوريا ومصر، إذ لم يكن يوجد تعليم جامعي في فلسطين في القرن العشرين إلا ابتداءً من عقد السبعينات فيه.
وكانت أهداف التعليم في فلسطين خلال فترة الانتداب تتلخص في(75):
1- تعليم شامل لإزالة الأمية إزالة دائمة.
2- التعليم من أجل كسب العيش.
3- إعداد المواطن الفلسطيني الصالح.
وكان الاحتلال البريطاني يرمي من وراء الهدف الأخير إلى إعداد المواطن الفلسطيني القانع، الذي لا يتورط ولا يهتم بمشاكل وطنه، كي يتقبل الوطن القومي لليهود في فلسطين.
واستمرت الحالة التعليمية في القدس على هذا النحو، بل كانت تزداد سوءاً يوميًا بعد يوم، حتى تقلص عدد المدارس الحكومية في المدينة ليصبح تسع مدارس حكومية في العام الدراسي 1937/1938م ، واستمر عدد المدارس الحكومية في القدس حتى عام 1945م كما هو(76). أما المدارس الخاصة فبلغ عددها (7) مدارس إسلامية، و(40) مدرسة مسيحية(77).
من خلال العرض السابق الموجز للحالة التعليمية والعلمية في مدينة القدس، يتبين لنا بوضوح مدى ما وصلت إليه هذه الحالة من سوء واندثار في ظل الظروف التي عاشتها المدينة، مما كان له الأثر السلبي المباشر على وضعية المكتبات في القدس فيما بعد.
بقي من المسيرة العلمية والتعليمية في القدس خلال القرن العشرين مرحلتان: مرحلة الوحدة حينما شكلت الضفة الغربية بما فيها القدس جزءاً من الأردن، ومرحلة الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ منذ عام 1967م ومازال جاثمًا على صدرها (القدس) حتى يومنا هذا.
ولست في سبيل عرض ومناقشة ما قدمه الأردن من خدمات علمية وتعليمية للقدس، أو ما تسبب به الاحتلال من أضرار، فإن هذا وتلك يحتاجان إلى بحث كامل، لذا أشير إشارة يسيرة إلى بعض ما حدث من قضايا علمية وتعليمية في هاتين المرحلتين، كانت لها أثرها المباشر على وضعية المكتبات في القدس فيما بعد.
في 14 مايو 1948م أعلنت بريطانيا إلغاء انتدابها على فلسطين، وفي 15 مايو من العام نفسه تم إعلان قيام إسرائيل، وتم الاعتراف بها كدولة من قبل كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وفي 12 مايو 1949م تم قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة(78).
ولا بد من القول هنا إن قيام إسرائيل يعود بالدرجة الأولى للجهود التي بذلتها الحكومة البريطانية طوال فترة انتدابها على فلسطين، فقد سخرت معظم القوانين والأنظمة التي أصدرتها في فلسطين لصالح اليهود حتى تمكنهم من السيطرة على الأراضي الفلسطينية والتحكم في الموارد الاقتصادية للبلاد، وقد غدت هذه السياسة مبدأً أساسيًا التزمت به حكومة الانتداب.
واغتصبت إسرائيل القدس الغربية تمامًا وضمتها إليها منذ عام 1948م، أما القدس الشرقية – وبها المقدسات الدينية – فوضعت تحت إشراف الأردن، وحافظت الأردن على القدس، فقامت بإعمار المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية الأخرى، وترميم الآثار الإسلامية، وإنشاء المدارس والمعاهد في القدس، وتصاعدت الصحوة الإسلامية، وانتعشت الحياة العلمية والتعليمية نتيجة دعم الأردن للمؤسسات التعليمية والثقافية بالقدس.
وفي عام 1967م حدثت النكسة أو الهزيمة العربية الكبرى، حيث شنت إسرائيل الحرب على الدول العربية، وقامت باحتلال سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية.
ومنذ هذا التاريخ تمارس السلطات الإسرائيلية كافة أشكال القمع والتمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين، ومست هذه الممارسات كافة جوانب الحياة ومنها الجانب التعليمي.
وتتعرض مدينة القدس منذ عام 1967م حتى يومنا هذا لأنواع شتى من الانتهاكات، في محاولة تهويد المدينة المقدسة – بما تمثله من قيم ورموز دينية وتاريخية وحضارية لملايين المسلمين في أنحاء العالم – وتغيير معالمها الفردية وطابعها المقدس، فقد قامت السلطات الإسرائيلية باتخاذ عدة قرارات متعلقة بشئون التعليم، منها إلغاء جميع البرامج التعليمية الأردنية المطبقة في مدارس مدينة القدس واستبدالها بتزييف الحقائق التاريخية وطمس العقيدة الإسلامية وتشويهها. ولكن تأييد مواطني القدس للمناهج العربية والأردنية ودفاعهم عن نوعية التربية التي يجب أن تقدم لأبنائهم، جعل السلطات الإسرائيلية تتراجع عن قرارها وتعيد المناهج الأردنية في المدارس، غيرأن هذه السلطات أصرت على أن يدرس الطلاب اللغة العبرية ومساقًا آخر حول المجتمع الإسرائيلي إلى جانب المناهج الأردنية(79).
ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 9 ديسمبر (كانون الأول) عام 1987م، والسلطات الإسرائيلية تحاول عرقلة التعليم في فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص،بأقصى الوسائل وأشدها وذلك عن طريق الإغلاق القسري للمدارس والجامعات واستخدامها كثكنات عسكرية ومحاصرتها واقتحامها.
أما عن الحالة التعليمية والعلمية في القدس منذ التسعينات – مرحلة السلام – وخاصة بعد اتفاقية أوسلو عام 1993م، فتميزت باشتداد الهجمة الإسرائيلية على مؤسسات التعليم والمؤسسات الأخرى العاملة في مدينة القدس الصامدة.
وتبذل سلطات الاحتلال الإسرائيلي جهودًا مكثفة ومتواصلة لخلق أوضاع قانونية ونفسية في القدس العربية وما حولها، تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل على الفلسطينيين أن يحافظوا على وجهها العربي والإسلامي، من هذه الجهود محاولة تهويد المدينة ومصادرة الأراضي وتطويقها بمجموعة من المستوطنات الكبيرة، حتى زاد عدد اليهود القاطنين في القدس الشرقية (المدينة العربية) عن مائة وخمسين ألف نسمة(80).
أما عن التعليم العالي في القدس فتوجد مؤسستان هما : جامعة القدس وجامعة القدس المفتوحة، بالإضافة إلى كلية الحقوق الفلسطينية، وفيها ثلاث مؤسسات للتعليم العالي المتوسط (سنتان بعد التوجيهي) كلية الإبراهيمية وكلية الأمة وكلية العلوم الإسلامية، وهذه المؤسسات جميعها تقدم خدماتها العلمية والتعليمية لحوالي (4000) طالب وطالبة(81).
أما بالنسبة للمؤسسات الدينية في مدينة القدس – في هذه الفترة كلها - وخاصة المسجد الأقصى فحدث ولا حرج، حيث تقوم السلطات الإسرائيلية بتهديد المقدسات الإسلامية الموجودة في المدينة بالزوال والطمس والهدم، عن طريق الحفريات التي تقوم بعثتان إسرائيليتان بحفرها بحثًا عن الهيكل المزعوم تحت مباني الحرم القدسي الشريف وخاصة المسجد الأقصى، والاعتداءات على الحرم القدسي الشريف كثيرة ومستمرة، سواء عن طريق محاولات المتطرفين اليهود بالدخول إلى المسجد الأقصى والصلاة فيه، أو عن طريق الحفريات التي تنهش أساساته وقواعده، والمسلسل طويل وكبير ومستمر، ولا تزال تعشش في ذاكرتنا أحداث حريق المسجد الأقصى المبارك عام 1969م الذي أتى على القبة ومنبر صلاح الدين فيه، وما تبع ذلك من مجازر خلال أعوام 1982م، 1984م، 1990م، وآخرها الزيارة المشئومة التي قام بها السفاح شارون في 28 سبتمبر 2000م، حيث سقط فوق ساحة المسجد الأقصى عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وكانت سببًا في قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية - انتفاضة الأقصى – التي لا زالت قائمة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلى يومنا هذا.
هذه صورة مبسطة وموجزة لما كانت عليه الأوضاع العلمية والتعليمية في مدينة القدس خلال القرن العشرين، وهي صورة مأساوية تعرضت لها المدينة المقدسة من مؤامرات التهدم الحضاري والعلمي لطابعها وتراثها الفكري المميز.
وخلاصة القول إن القدس احتلت منذ بداية التاريخ الإسلامي مكانة مميزة في قلوب المسلمين، فهي مدينة الأنبياء الذي جاء الإسلام مصدقًا لرسالتهم، وهي من الأرض التي باركها الله تعالى، وهي فوق هذا وذاك أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وإليها أُسرىبرسول الله (() ومنها عرج به إلى السموات العلى. وإزاء هذا الوضع كان من الطبيعي أن تلقى المدينة الرعاية والعناية من قبل الخلفاء والأمراء والحكام المسلمين على مر العصور.
وتؤكد كل الشواهد أن المسيرة العلمية والثقافية في مدينة القدس بدأت منذ الفتح الإسلامي لها واستمرت حتى يومنا هذا، ولكن تدل المؤشرات الكثيرة على أن هذه المسيرة لم تمض على وتيرة واحدة من الازدهار والرقي والنضوج الفكري والثقافي، بل تعرضت إلى هزات عنيفة ارتبطت بالأجواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية التي مرت بها مدينة القدس في حقب تاريخها الطويل، فكانت تزدهر أحيانًا وتخبو أحيانًا أخرى، ولكن سراجها العلمي وإشعاعها الديني لم ينطفئا أبدًا على مر الأيام والسنين، بل كانا وراء نشر الثقافة الدينية والعلمية في طول البلاد وعرضها، وعصب التماسك الفكري والحضاري بين أبناء العالم الإسلامي عامة وفلسطين خاصة والقدس على وجه الخصوص، وإن تغير الزمان وتباين المكان، وكانا أخيرًا مصدر بناء قوي لأهم دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية ألا وهي المكتبات.
المبحث الثاني : مكتبة المسجد الأقصى .. النشأة والتطور :
2/0 تمهيد:
يحاول هذا المبحث بالدراسة والتحليل تقصي نشأة مكتبة المسجد الأقصى وتتبعها، مع إعطاء صورة عن تطورها خلال مسيرتها التاريخية التي بدأت مع الفتح الإسلامي للقدس حتى عصرنا الحالي، من أجل الكشف عن التاريخ المكتبي الذي كانت تمثله هذه المكتبة في سيرتها الأولى، والذي بلغ درجة عالية من النضج، قل أن يبلغه كثير من المكتبات القائمة في أيامنا هذه. ولما كانت مكتبة المسجد الأقصى – وهي بؤرة الاهتمام هنا – تصنف مكتبة نوعية تحت مكتبات المساجد، فقد اقتضى الأمر إعطاء صورة ولو موجزة – في بداية هذا المبحث عن نشأة مكتبات المساجد في فلسطين بصفة عامة.
2/1 نشأة مكتبات المساجد :
كان وأصبح وسيظل للكتاب مكانة أثيرة في الحضارة العربية الإسلامية، فالكتاب كما قال عنه الرسول (() هو "قيد العلم"، وقد كان إقبال المسلمون على العلم في عصور حضارتهم إقبالاً عظيمًا، فلا غرو أن أحلّوا الكتاب المنزلة الرفعية وأغدقوا عليه فيضًا من المحبة والاحترام.
وقد كان وأصبح وسيظل للمكتبات دور عظيم في الحضارات الإسلامية في مختلف الأقطار والأمصار، وكانت من مفاخر هذه الحضارة، باعتبارها إحدى دعاماتها والأساس الأول في بنائها، فالمكتبات هي الموئل الأول الذي تؤول إليه الكتب، يحتضنها وتسكن في جنباته.
وحضارة فلسطين جزء من الحضارة العربية والإسلامية، فقد ساهمت بنصيب وافر في بناء هذه الحضارة، بما قدمته من مؤلفات ومصنفات لعلمائها ورجالاتها في جميع مجالات المعرفة الإنسانية.
ويرتبط تاريخ المكتبات في الحضارة العربية الإسلامية ارتباطًا وثيقًا بالإسلام، حيث أولت هذه الحضارة اهتمامًا كبيرًا بالعلم والحض عليه وتكريم أهله من العلماء والأدباء والمفكرين، فمنذ فجر الإسلام اتخذ المسلمون المسجد مكانًا للدراسة والتعليم "ودور المسجد في التثقيف العلمي من الأدوار المخصبة في حياة الأمة والإسلامية، ويبدو أن العلماء والمشرعين لم يجدوا أمنًا ولا طمأنينة في تفهم كتاب الله وسنة نبيه إلا في ظلال المساجد(82). ولما كانت الكتب ركنًا أساسيًا من أركان العملية التعليمية، فقد احتفظت المساجد بمجموعة من هذه الكتب، وكانت المصاحف أول الكتب التي توضع في المساجد.
فقد جرت العادة ولا تزال أن يودع بعض وجهاء الناس وعلية القوم في المساجد عددًا من نسخ القرآن الكريم وعددًا آخر من الكتب الدينية، لفائدة المطالعين والمصلين من رواد هذه المساجد.
"ومن الواضح أن مكتبة المسجد ظهرت للوجود منذ اتخذ المسلمون المسجد مكانًا للدراسة، ذلك لأنه لا دراسة بدون كتب، وإذا علمنا أن الدراسة على مختلف مراحلها وبأغلب فروعها كانت تتم في المسجد والجامع، وذلك حتى زمن قريب من عهدنا الحاضر أمكننا أن ندرك أهمية المكتبة الملحقة بالمساجد، وأن أغلب المساجد وخاصة الهامة منها كانت ولا تزال تمتلك مكتبة خاصة، وهذه المكتبة لا تحتوي كتبًا دينية فقط وإنما بالإضافة إليها كتبًا فلسفية وعلمية(83). ومن ثم يمكن القول إن هذا النوع من المكتبات يعتبر أول المكتبات نشوءاً في الإسلام، ويهدف إلى خدمة مجتمع المسجد من المصلين فضلاً عن نشر الثقافة بين أفراد المجتمع المحلي.
وهذا الوضع نجده في المساجد الكبرى في الحجاز والعراق وفلسطين ومصر وتونس والأندلس، والتي غدت معاهد دينية وجامعات علمية في أوسع معانيها، لها طابعها ونظمها وثقافتها وتقاليدها العلمية الراسخة، ولكل منها مكتبة ضخمة تضم أمهات الكتب ونفائس المخطوطات.
وبدأ ظهور مكتبات المساجد في فلسطين مع إنشاء المساجد بها، وبدأ إنشاء المساجد بها عقب الفتح الإسلامي للبلاد مباشرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، فكان كلما فتح مدينة من مدن فلسطين مثل نابلس ويافا وغزة والقدس ... إلخ، أقام بها مسجدًا، وهكذا كثر عدد المساجد في فلسطين، وقامت هذه المساجد بتأدية خدمات كثيرة، أهمها حفظ اللغة العربية ونشر الثقافة الإسلامية في أرجاء فلسطين.
والمتتبع لتاريخ النهضة المكتبية في فلسطين سيجد أن مكتبات المساجد هي المكتبات الأولى التي عرفتها فلسطين الإسلامية، وتقف على قمة هذه المكتبات خزائن المسجد الأقصى في مدينة القدس، وقبل الحديث عن تاريخ هذه الخزائن، لزم الأمر إعطاء لمحة يسيرة عن مكتبات بعض المساجد الكبرى في فلسطين، كالمكتبة الأحمدية في عكا، ومكتبة الحرم الإبراهيمي في الخليل، ومكتبة جامع يافا الكبير، ومكتبة مسجد الحاج نمر النابلسي في نابلس، وهذه المكتبات من أشهر مكتبات المساجد في فلسطين وأعرقها والتي كان لها الدور الثقافي المميز في تاريخ فلسطين وحضارتها.
1- المكتبة الأحمدية في عكا :
أنشأ أحمد باشا الجزار والي عكا مسجدًا فخماً سنة (1196ه/ 1781م)، ويعتبر هذا المسجد من أجمل المساجد في فلسطين عامة، وبه يتجلى الفن الإسلامي في أبدع مظاهره، وفيه ألحق الجزار بهذا المسجد مدرسة دينية ومكتبة وهي التي تسمى الآن "المكتبة الأحمدية" وكانت مجموعة المكتبة تتألف من الكثير من الكتب النفيسة والمخطوطات التي انتزعها الجزار في أثناء ولايته من خزانة خير الدين الرملي مفتي الرملة (84). وقد جردت محتويات هذه المكتبة وصنفت كتبها فبلغ عددها (1199) كتابًا، منها (488) في التفسير والحديث والقصص النبوية و(69) كتابًا في اللغة والتصوف والآداب، والكتب الباقية في التاريخ والجغرافيا وغيرهما من العلوم(85). بالإضافة إلى (500) مخطوطة من أنفس المخطوطات(86). ولكن الجرد الأخير للمكتبة سنة 1983م، أظهر أنه لم يعد فيها سوى ثماني مخطوطات فقط(87).
2- مكتبة الحرم الإبراهيمي في الخليل :
يقع المسجد الإبراهيمي جنوبي شرق مدينة الخليل في فلسطين المحتلة، وهذا المسجد من المساجد القديمة في ديار الإسلام، وقد حوى مكتبة كبيرة منذ زمن صلاح الدين الأيوبي، وتضم المكتبة نحو (1269) كتابًا معظمها في علوم الدين : القرآن وعلومه، والحديث النبوي الشريف، والفقه وأصوله، والتوحيد والتصوف، بالإضافة إلى موضوعات النحو والصرف والمنطق. كما تضم (140) مخطوطة في علوم الدين الإسلامي من قرآن وتفسير وفقه وتوحيد، وفيها مجموعة من المصاحف الأثرية(88). في عام 1976م قام اليهود أثناء وجودهم في المسجد الإبراهيمي بعد أن دخلوه عنوة، وفرضوا منع التجوال، قاموا بأعمال تخريبية مختلفة منها سرقة عدة مصاحف أثرية ومخطوطات(89).
3- مكتبة جامع يافا الكبير :
أسس جامع يافا الكبير الشيخ محمد بيبي سنة 1158ه/1745م وعمّره حاكم يافا مير محمد آغا سحور المعروف بأبي نبوت سنة 1810م، وقد ألحق محمد آغا أبو نبوت بالجامع مكتبة ضخمة تبلغ نحو ألف مجلد من الكتب والمخطوطات النفيسة، أكثرها في العلوم الدينية واللغة العربية، ومعظم مخطوطاتها – كغيرها من مخطوطات المكتبات القديمة – تعرضت إلى الضياع والتبديد، وما تبقى منها إلا (339) مخطوطة معظمها في الفقه وأصوله والتوحيد والتفسير(90).
4- مكتبة مسجد الحاج نمر النابلسي بنابلس :
أنشأ الحاج نمر بن حسن النابلسي هذا المسجد سنة 1357ه/1938م، ويعتبر هذا المسجد من أشهر مساجد المدينة وأكبرها، وله مكتبة ضخمة، بلغ عدد مجلداتها عام 1944م نحو (1600) مجلد بين مطبوع ومخطوط في علوم الدين الإسلامي واللغة العربية والتاريخ(91).
هذه اللمحة التاريخية الموجزة لمكتبات المساجد في فلسطين أردت بها بيان الماضي العريق والدور الثقافي الكبير الذي أدته تلك المكتبات كجزء من منظومة المكتبات الفلسطينية،












التوقيع
اقم دولة الاسلام في قلبك
قبل ان تقمها على ارضك
أبو عبدالرحمن
<a href=http://alyaseer.net/vb/image.php?type=sigpic&userid=16419&dateline=1227596408 target=_blank>http://alyaseer.net/vb/image.php?typ...ine=1227596408</a>
  رد مع اقتباس