عرض مشاركة واحدة
قديم Feb-11-2007, 12:41 PM   المشاركة6
المعلومات

د.محمود قطر
مستشار المنتدى للمكتبات والمعلومات
أستاذ مساعد بجامعة الطائف
 
الصورة الرمزية د.محمود قطر

د.محمود قطر غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 13450
تاريخ التسجيل: Oct 2005
الدولة: مصـــر
المشاركات: 4,379
بمعدل : 0.65 يومياً


افتراضي ثقافة الأطفال

القسم الثاني : ثقافة الأطفال
الفصل الأوّل : تكوين ثقافة الأطفال‏
تُعَدُّ وسائل الإعلام مصدراً من مصادر ثقافة الطفل، ولهذا السبب برز مصطلح فرعي داخل هذه الوسائل سُمّي بالإعلام الثقافي الخاص بالأطفال، أو بتسميات أخرى تُحقّق مفهوماً محدّداً للصناعة الثقافية، هو الإسهام في تثقيف الطفل في الحاضر وإعداده للمستقبل. والمشكلة التي تواجه هذا الإعلام هي تباين الدول العربية في أهداف تثقيف الطفل، والاندفاع غير العلمي في عرض برامج وتقديم نصوص لا تخدم الاستراتيجية الثقافية العربية. وسأحاول، هنا، فحص تجربة من التجارب العربية، هي تجربة تكوين ثقافة الأطفال في سورية لمعرفتي بها، واتصالي الوثيق بتاريخها وحاضرها. وسأركّز الفحص على مصدرين من مصادر هذه الثقافة، هما الكتب والمجلات، لأنهما أكثر شيوعاً في سورية، ولأنني أرغب في أن أُضيف إليهما كتباً ومجلات عربية أخرى خاصة بالأطفال تتوافر في السوق السورية، وتسهم في تكوين ثقافة الطفل، وتصلح للتأكُّد من نتائج الفحص.‏
الحديث عن تكوين ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات يعلن الإيمان بأن ثقافة الأطفال في سورية إحدى الصناعات الثقافية التي يمكن خلقها وتوجيهها بوساطة الكتب والمجلات، ويضمر سؤالاً مهمّاً عن واقع هذه الثقافة وطبيعة خلقها أو تكوينها. وهذا يعني أنني مضطر إلى اصطناع منهج وصفي تحليلي تحيط إجراءاته بالأمرين التاليين: وصف واقع الثقافة في كتب الأطفال ومجلاتهم في سورية، وتحليل هذا الواقع ونقده. كما أنني لا أشك في أن الأمرين نفسيهما هما الهدف الذي أسعى إلى تحقيقه هنا.‏
على أن وضوح الهدف وتحديد المنهج ليسا كافيين للمضي في البحث. ذلك لأن الصناعة الثقافية لا تُسمّى إعلاماً ثقافياً ما لم تملك تحديداً للصورة المستقبلية للإنسان والمجتمع. فالإعلام الثقافي تربية بالمعنى الواسع للمصطلح، ولا بدّ لهذه التربية من أهداف عامة تُجسِّد الصورة المستقبلية، وأهداف خاصة بكل وسيلة ثقافية تقود إلى تحقيق الأهداف العامة. أما الأهداف العامة فمحدّدة في سورية، يستطيع أي باحث عربي معرفتها إذا قرأ مناهج المرحلة الابتدائية(1). ولا بأس في أن أنوب عن هذا الباحث في قراءة هذه الأهداف العامة فأقول إنها بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد، وتنشئة الطفل على القيم القومية والاشتراكية والوطنية والعلمية والأخلاقية والجسدية التي تُؤهّله للإسهام في هذا البناء والعيش فيه، دون أن تفصله عن لغته وتراثه، ودون أن تحدّ من حرّيته وتكامل شخصيّته وقدراته الإبداعية. أما الأهداف الخاصة بالكتب والمجلات فسأتحدّث عنها وصفاً وتحليلاً في الفقرات القابلة، ولكنني أنطلق الآن من فرضيّة عامة، هي أن القائمين على الكتب والمجلات يملكون تحديداً لهذه الأهداف، ويعرفون الأساليب التي تُجسِّدها.‏
ثم إنه لا بدَّ لي من أن أملك معياراً للحكم، أو مرجعاً أستند إليه في وصف واقع ثقافة الأطفال في الكتب والمجلات وتحليله ونقده. والمعيار هنا هو مصطلح الثقافة، وهو مصطلح غائم يصعب تقديم تعريف جامع مانع له. وقد آثرتُ التخلّص من غموض الدلالة باعتماد المعنى الضيّق للثقافة، وهو العلوم والفنون والآداب والمهارات والقيم التي يتحلّى بها الإنسان، ويتمكّن بوساطتها من ترقية عقله وأخلاقه وذوقه ونمط سلوكه، ليتكيّف مع عادات مجتمعه وتقاليده وأفكاره، ويغدو قادراً على التأثير الإيجابي فيها. ولكنني أعي أن المعنى الضيّق للثقافة عامّ، ولهذا السبب حدّدتُ مرادي من مصطلح (ثقافة الأطفال) على أنه (مجموعة العلوم والفنون والآداب والمهارات والقيم التي يستطيع الطفل استيعابها وتمثّلها في كل مرحلة من مراحله العمرية الثلاث، ويتمكّن بوساطتها من توجيه سلوكه داخل المجتمع توجيهاً سليماً). على أن تخصيص مصطلح ثقافة الأطفال لا يحجب ما أؤمن به من أن ثقافة الكبار لا تنفصل عن ثقافة الأطفال، لأن الكبار ينقلون إلى الأطفال ثقافة مجتمعهم، ويحاولون -كما سبق القول- صوغهم بحسب الصورة المستقبلية التي حدّدوها ورأوها صالحة لنهضة الوطن والأمّة.‏

-1-‏
تصدر في سورية مجلتان للأطفال، هما أسامة والطليعي. وتدخل السوق السورية مجلات أخرى، أبرزها: العربي الصغير وسامر وسعد وماجد.‏

1-1-: أما مجلة (أسامة) فقد بدأت تصدر عن وزارة الثقافة السورية مرتين في الشهر ابتداءً من عام 1969 في 32 صفحة. يضم قرارها التنظيمي(2) عدداً من الموادّ، أهمها بالنسبة إلينا المادّة الأولى، وهي: (تُصْدِرُ وزارة الثقافة والإرشاد القومي مجلة للأطفال نصف شهرية اسمها أسامة، كملحق لمجلة المعرفة، أهدافها تنمية الطفل العربي على قيم أمّته، وتزويده بالثقافة الصحيحة، وتقديم التسلية المفيدة له).‏
ومن الواضح أن إلحاق مجلة أسامة (وهي للأطفال) بمجلة المعرفة (وهي للكبار) يعكس الفهم السائد عام 1969 للطفل وثقافته، وهو فهم ينص على أن الطفل راشد مصغّر ينتظر الزمن ليصبح كبيراً. وعلى الرغم من أننا قادرون على نعت هذا الفهم بالتخلف، فإننا لم نر له أي تأثير سلبي لأن واقع مجلة أسامة، من بداياتها الأولى، نقضه وراح ينظر إلى الطفل على أنه عالم قائم بذاته. وما هو أكثر أهمّية بالنسبة إلينا تلك الأهداف الغائمة التي نصّتْ عليها المادّة الأولى. فما المراد بالثقافة الصحيحة؟ ولماذا لم تكن قيم الأمّة جزءاً من هذه الثقافة الصحيحة؟ وهل هناك تعارض بين الثقافة الصحيحة والتسلية؟ إذ فسّرنا قصور الأهداف الخاصة بمجلة أسامة بما فسّرنا به تبعيتها لمجلة المعرفة كنا أكثر انسجاماً مع الفهم السائد عام 1969لثقافة الأطفال في سورية. يشير إلى ذلك أن القائمين على المجلة اضطروا إلى ترجمة هذه الأهداف الغائمة إلى أهداف أكثر وضوحاً وتحديداً وقابليّة للتنفيذ، هي(3):‏
-ربط الطفل بتراثه القومي والحضاري.‏
-ربط الطفل بواقعه اليومي في مجتمع يرسي أسس الوحدة والحرية والاشتراكية.‏
-فتح نافذة يطل منها على العالم الذي يعيش فيه من حيث التطوّر العلمي والتكنولوجي.‏
-إغناء الثقافة العامة في مختلف العلوم.‏
-غرس القيم التربوية والوطنية والاجتماعية في نفسه.‏
-تشجيعه على المساهمة في بناء الوطن.‏
-مساعدته على توجيه أوقات فراغه، والاستفادة من هذه الأوقات بما يعود عليه وعلى من حوله بالنفع.‏
وغير خاف على أي راغب في مقارنة هذه الأهداف الخاصة بمجلة أسامة بالأهداف العامة للتربية في سورية أن هناك ارتباطاً وثيقاً بينهما، يفضي إلى الاطمئنان بأن القائمين على المجلة يعون أن وسيلتهم الثقافية تسهم في بناء الصورة المستقبلية للإنسان والمجتمع في سورية. وقد اتصفت مجلة أسامة بالالتزام من بداياتها الأولى، وما زالت تحمل هذه الصفة وتعتزّ بها. غير أن ذلك لا يلغي السؤال التالي: ما طبيعة النصوص المنشورة في أسامة؟ وهل تُحقّق الأهداف التي رسمتها المجلة لنفسها؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين تنطلق من تحليل الخطاب الثقافي الذي تبثه المجلة عبر موادّها. ويمكنني القول، بادئ ذي بدء، إن موادّ المجلة تتمتّع بشيء غير قليل من الثبات. فهي تضم قصصاً مصوّرة مسلسلة وأخرى تعتمد على النص، كما تضم قصائد ومقالات علمية وأبواباً تخص كتابات الأطفال وقضايا التعارف بينهم. ولهذا الثبات مسوّغ معروف ولكنه غير مقبول. إذ أن المجلة تعتمد اعتماداً رئيساً على الكتّاب والفنّانين من خارج المجلة، وتفتقر إلى جهاز إداري وفنّي ينهض بعبء التحرير. وليس سرّاً القول إن رئيس التحرير كان الشخص الوحيد القائم على شؤون مجلة أسامة طوال حياتها. وعلى الرغم من أن هناك هيئة تحرير استشارية وارتباطاً عضوياً بوزارة الثقافة فإن المجلة لم تتسع إدارياً كما اتسعت ثقافياً. ومن ثمّ كانت مضطرة إلى الاعتماد على الكُتّاب والفنّانين من خارج المجلة، والرضى بالموادّ التي يُقدّمونها، وإنْ كانت هناك فسحة للقبول والرفض والمناقشة من خلال رقابة رئيس التحرير. وهذا أمر ليس هيّناً، لأنه فرض على أبواب المجلة نوعاً من الثبات لا يشدّ الأطفال كثيراً، كما فرض أحياناً نصوصاً لا تتمتّع بالمستوى الذي يطمح إليه رئيس التحرير. وما هو أكثر خطراً أن تقف المجلة عاجزة عن تحقيق التوازن بين الأهداف التي رسمتها لنفسها. ولكي أوضِّح هذا العجز سأُحلّل المادتين اللتين اشتهرتْ بهما المجلة، وهما القصة المصوّرة المسلسلة والقصة التي تعتمد على النص.‏
نشرت مجلة أسامة 181 قصة مصوّرة مسلسلة طوال ستة عشر عاماً. ويمكنني تصنيف هذه القصص المسلسلة بحسب مضموناتها على النحو الآتي(4):‏
-في الموضوعات الاجتماعية: 47 قصة مسلسلة.‏
-في الموضوعات الوطنية والقومية: 32 قصة مسلسلة.‏
-في الموضوعات الخاصة بالتراث الشعبي العربي: 32 قصة مسلسلة.‏
-في الموضوعات الخاصة بالتراث الشعبي العالمي: 28 قصة مسلسلة.‏
-في الموضوعات التاريخية: 17 قصة مسلسلة.‏
-في موضوعات الخيال العلمي: 11 قصة مسلسلة.‏
-في الموضوعات العلمية: 9 قصص مسلسلة.‏
-في موضوعات الأساطير القديمة: 5 قصص مسلسلة.‏
يشير التصنيف السابق بوضوح إلى أن الخطاب العلمي احتل المرتبتين السادسة والسابعة بين أنواع الخطاب الثقافي في القصص المسلسلة، وهما أدنى المراتب لأن المرتبة الثامنة التي احتلتها الأساطير سرعان ما تلاشت بعد عامي 1969 و1971 نتيجة الوعي بأثرها السلبي في ثقافة الطفل. كما يشير التصنيف إلى نوع من السيادة للخطاب التراثي الشعبي والتاريخي، مما ينم عن أن مجلة أسامة معنّية بربط الطفل العربي بتراث أمّته انطلاقاً من أن البعد التراثي أحد أبعاد شخصيّته القومية، ومن أن التراث الإنساني بُعْدٌ آخر من أبعاد شخصيّته. بيد أنها لم تهمل الحاضر، فراحت تربط الطفل بمجتمعه وأسرته ومشكلات أمّته، وخصوصاً الصراع العربي الإسرائيلي، تبعاً لإيمانها بأن ذلك شيء رئيس في شخصيّة الطفل. وعلى الرغم من ذلك كله فإن الملامح العامة للقصص المسلسلة كامنة في تغليب الماضي على الحاضر، وفي تغليب الطابع الأدبي على الطابع العلمي.‏
والمعروف أن القصة المصوّرة المسلسلة موجّهة أساساً إلى أطفال المرحلة الثانية (بين 6-8 سنوات) الذين لم يتقنوا آلية القراءة جيداً، في حين تتوجَّه القصة التي تعتمد على النص إلى أطفال المرحلة العليا (بين 9-12سنة) الذين أتقنوا آلية القراءة. وقد عُنيتْ مجلة أسامة بهذين النوعين من القصص، مما جعلها صالحة للطفولة الثانية والثالثة. غير أن المحافظة على التوازن بين شريحتين من القرّاء ليست سهلة، فلكل منهما رغباته وميوله ومستواه القرائي. ولعل مجلة أسامة حين قدّمت نوعين من القصص كانت تنطلق من أنها للأطفال كلهم أو للشريحتين الثانية والثالثة على أقل تقدير، ولكنها ابتداءً من عام 1977 عجزت عن توفير التوازن بين النوعين المذكورين من القصص. إذ ضمرت القصص المسلسلة، وكادت تقتصر على خمسة مسلسلات في العام الواحد(5). ونمت في مقابل هذا الضمور القصة التي تعتمد على النص، فزاد عددها زيادة ملحوظة، مما جعل مجلة أسامة تنحاز إلى أطفال المرحلة العليا وتتنازل شيئاً فشيئاً عن أطفال المرحلة الثانية، بل إنها خسرتهم في بعض السنوات حين أصبح تلكؤ إصدارها عائقاً أمام تواصل أطفال هذه المرحلة مع حلقات القصص المصوّرة المسلسلة.‏
كانت القصص التي تعتمد على النص تحتلّ المرتبة الثانية في مجلة أسامة، ولكنها شرعت ابتداءً من عام 1977 تحتلّ المرتبة الأولى. وهذه القصص سردية تقص على الطفل حكاية ذات حوادث وحبكة وبطل. وهي لون ماتع، يحبه الطفل ويُقْبل عليه سواء أكان اجتماعياً أم علمياً أم تاريخياً. والملاحظ أن النزعة التوجهية سيطرت على الكُتّاب في سورية، فراحوا يهتموّن بالتعبير عن قيم يرغبون في سيادتها. وكنتُ حلّلتُ(6) 165 قصة من هذا النوع السردي نشرتها مجلة أسامة خلال ثلاثة أعوام (1977-1978-1979) بغية معرفة اتجاه القيم فيها، فلاحظتُ أن هناك سادة لأربع مجموعات، هي: مجموعة القيم المعرفية الثقافية، ومجموعة القيم الاجتماعية، ومجموعة قيم تكامل الشخصية، ومجموعة القيم العملية الاقتصادية. ولو دقّقنا في القيم التي ضمّتها هذه المجموعات بحسب سيادتها للاحظنا أن قيمة المعرفة فاقت القيم كلها في القصص التي قدّمتها مجلة أسامة، مما يعكس الاتجاه المدرسي في فهم الطفل لدى الأدباء الذين كتبوا هذه القصص، وكأنهم يكتبون ليُعلّموا الطفل ويغذّوه بالمعارف. ومن ثَمّ نراهم يكرّرون ما تفعله المدرسة حين تنظر إلى الطفل على أنه دماغ يحتاج إلى حشو دائم بالمعارف، وحين تبتعد عن قيمة الذكاء التي تُنمّي القدرات العليا المتصلة ببناء شخصيّته أكثر من اتصال الذاكرة بها. صحيح أن القصص اهتمت بمجموعة القيم الاجتماعية كوحدة الجماعة وقواعد السلوك والمماثلة والتسامح والكرم وحب الناس وغيرها، إلا أنها ركزْت داخل هذه المجموعة على قيمتي الأسرة والصداقة، وضعف اهتمامها بقيمتي وحدة الجماعة والجنس الآخر. ونستطيع ملاحظة الأمر نفسه في مجموعة قيم تكامل الشخصية. إذ أن القصص أهملت قيماً مهمّة داخل هذه المجموعة، كقيمة التصميم التي تعني الشجاعة والجلد والجرأة وتحمُّل الأعباء واجتياز الصعوبات، وتربّي في الطفل إرادة التغيير والعزم على مغالبة التحديات التي تواجهه. ولا يختلف الأمر في المجموعة الرابعة، مجموعة القيم العملية الاقتصادية. فقد اهتمت القصص بقيم العمل والتعاون من أجل الوطن بما تعنيه من تركيز على الإنتاج والعمل لخير الوطن ومصلحته وتقدّمه وصيانة قضاياه وأسراره، وأهملت قيم الضمان الاقتصادي والملكية الاشتراكية والتنافس.‏
أخلص من الحديث عن مجموعات القيم التي اكتسبت السيادة في القصص التي نشرتها مجلة أسامة إلى أن هناك تركيزاً على قيم دون أخرى، مما ينم عن الجهل بمنظومة القيم وأثرها في بناء الشخصية السليمة الخالية من الاضطرابات العصابية. وإلا فما معنى أن يتمّ التركيز على بعض المجموعات، وعلى قيم دون أخرى داخل المجموعات التي لها سيادة في القصص؟‏

1-2-صدرت، ابتداءً من آذار/ مارس 1984، مجلة (الطليعي) الشهرية عن دار طلائع البعث للطباعة والنشر في سورية بإشراف قيادة منظمة طلائع البعث. واللافت للنظر أن المجلة حدّدت جمهورها على أنه أطفال المرحلة العليا (9-13سنة)(7) من الطليعيين والطليعيّات خصوصاً، والأطفال العرب عموماً. كما رسمت أهدافها بدقّة على أنها توظيف الكلمة من أجل تحقيق الأمور الآتية(8):‏
-وحدة الفكر الأيديولوجي والسياسي بتقديم القضايا المصيرية والحياتية بشكل يتلاءم ومدارك الطليعيين ووعيهم.‏
-تربية الأطفال ليكونوا قوميين اشتراكيين بأخلاقهم وعملهم.‏
-تربية الطليعيين على تنظيم حياتهم في البيت والمدرسة والحي.‏
-تربية الطليعيين على الإسهام في المناشط واستيعاب المهارات اليدوية وربط المعارف النظرية بتطبيقاتها العلمية.‏
-تشكيل الاتجاه الحزبي لدى الطليعيين.‏
-تربية الطليعيين على الفرح والسعادة في العمل والحياة، وعلى التعاون لخير الوطن ومصلحة الأمة.‏
-تربية الطليعيين على البحث والتنقيب، وتشجيع روح الابتكار لديهم.‏
هذه الأهداف التي آثرتُ إيراد نصّها بإيجاز تشير بوضوح إلى الالتزام الدقيق بأهداف حزب البعث العربي الاشتراكي خصوصاً، والأهداف العامة للتربية في سورية عموماً. ولا تعارض بين هذين النوعين من الأهداف، إلا أن المجلة حرصتْ على التركيز على النوع الأول انطلاقاً من أنها تصدر عن المنظمة التربوية السياسية الوحيدة للأطفال في سورية، وهي منظمة معنيّة بترسيخ فكر حزب البعث في أطفال المدرسة الابتدائية ليكونوا قوميين اشتراكيين. وقد سعت المجلة إلى الإفادة من الخبرات المحلية في تحديد أبوابها، وناقشت طويلاً العدد (صفر)، ثم خلصت إلى الحرص على تنوُّع الأبواب وارتباطها بحياة الطلائع في المدرسة والمعسكر، دون أن تتنازل عن التراث السابق المتمثّل في مجلة أسامة، فأبقت على القصص المصوّرة المسلسلة، والقصص التي تعتمد على النص، والقصائد، وإبداعات الأطفال. وحرصت على الوصول إلى الأطفال في مدارسهم بوساطة فروع منظمة الطلائع في المحافظات السورية، وأهملت وسيلة طرح المجلة في الأسواق، وتمسّكت بالثمن الزهيد، وبالإصدار المنتظم، وبالعدد المقبول من الصفحات (52صفحة)، وبشيء من الأناقة في الإخراج.‏
ويمكن الاطمئنان، بعد تتبّع المواد التي نشرتها مجلة الطليعي، إلى أن هناك التزاماً دقيقاً بالأهداف التي وضعتها المجلة. فهناك تنوُّع في المواد يشمل القصص المصوّرة المسلسلة والقصص المعتمدة على النص، والقصائد والمقالات العلمية والتحقيقات الصحفية وحلقات البحث الطليعية، ورصد النشاطات الفنيّة والرياضية، وأبواب الصحة والتسلية وتنمية المهارات والمعارف وإبداعات الأطفال ورسائلهم. وقد حرصت المجلة على أن تحقّق كلُّ مادة منشورة فيها هدفاً من الأهداف الموضوعة لها، مهما يكن انتماء هذه المادة إلى الحقول المعرفية المختلفة. وكان هناك تشدُّد واضح في المواد ذات الطابع الأدبي تجلّى في نشر المادة التي تُعبِّر تعبيراً واضحاً مباشراً عن التوجُّه القومي الاشتراكي، وإهمال المواد التي تُعبّر بشكل ضمني غير مباشر عن هذا التوجُّه. وقد برزت نتيجة هذا التشدُّد مشكلة مهمّة هي الطرح المباشر للقيم. فالعدد السابع من السنة الرابعة (أيلول/ سبتمبر 1987)، على سبيل التمثيل لا الحصر، يضم العنوانات التالية: ثورة الشيخ صالح العلي- إلى أهلنا في الأرض العربية المحتلّة- سلّة من النجوم- نشيد المشاعل- جدّي- الطليعة المثالية- وطني.. إن هذه العنوانات هي عنوانات المواد ذات الطابع الأدبي في العدد المذكور، وهي منوّعة بين قصة مصوّرة مسلسلة وقصة تعتمد على النص وقصائد، إلا أنها، ما عدا قصيدة جدّي، تعبّر تعبيراً مباشراً عن القيم الوطنية والقومية، وهذا التعبير ليس مقصوراً على اختيار عنواناتها، بل يشمل مضمونها أيضاً. وليس غريباً أن يضمّ عدد واحد ست مواد تطرح القيم الوطنية والقومية طرحاً مباشراً، فذلك دأب المجلة وسنتها التي لا تحيد عنها. ولكن الغريب أن يمتدّ الطرح المباشر إلى المادة الوحيدة التي ضمت قيمة اجتماعية هي الارتباط بالجدّ على أنه وسيلة من وسائل التماسك الأسري. ويمكنني القول إن اهتمام المجلة بالقيم الاجتماعية ضعيف، فهي تُقدّم نصوصاً تتجاوز المشكلات التي يضمها الواقع إلى مشكلات افتراضية لا مسوّغ لطرحها غير ترسيخ الحياة الهانئة في المجتمع المحيط بالطفل. وكأن المجلة حريصة على زجّ قارئها الطفل في حياة خالية من الإخفاقات والانكسارات والهزائم وتجلّيات المجتمع الاستهلاكي، لا همَّ لها غير محاربة الأعداء في فلسطين ولبنان، والسعي إلى بناء المجتمع الخالي من الظلم والاستغلال، مجتمع العمال والفلاحين.. ومهما تكن مسوّغات المجلة فإن دفع الطفل إلى المستقبل على أجنحة الأحلام والأماني مفيد إذا ارتبط بتعرُّف الحاضر وأساليب ترسيخ إيجابياته والقضاء على سلبياته، وإلا فإنه يبقى عملاً سياسياً في ثوب أدبي منفصل عن حركة الواقع ومشكلاته.‏

1-3-صدرت مجلة العربي الصغير عن وزارة الإعلام بدولة الكويت ابتداءً من شباط /فبراير 1986 في 64صفحة. وقد حدّدت المجلة جمهورها على أنه أطفال المرحلة العليا (9-14سنة)(9)، وخصَّصتْ ثماني صفحات للأطفال الأصغر سنّاً دون أن تُحدِّد مَنْ هم الأصغر سنّاً، ولكن الصفحات الثماني نفسها تشير إلى أن المجلة تقصد أطفال المرحلة الثانية (6-8-سنوات). والواضح أنها -استناداً إلى ذلك- كانت تعي من البداية صعوبة التوجُّه إلى الأطفال كلهم، لأن هؤلاء الأطفال ليسوا شريحة تحمل اهتمامات ورغبات وميولاً واحدة، ومن ثَمَّ آثرت الجمع بين شريحتين، وتميز كلٍ منهما بصفحات خاصة. أما الأهداف فلا أملك نصَّ القرار الناظم لها، غير أن افتتاحيّات العديدن التمهيديين (صفر 1 وصفر 2) والأعداد الأولى تنصّ على خلق جيل من أبناء الوطن العربي مخلص للثقافة العربية، واع بروافد المعرفة، معتزّ بعروبته ومعتقدة.‏
والحقّ أن الأبواب التي اعتمدتها المجلة متنوّعة جداً، ففيها باب يُقدّم التراث العربي الحكائي، وآخر لرواية الحكايات المعاصرة، وثالث للقصص المصوّرة المؤلّفة من حلْقة واحدة، ورابع للجانب العلمي من التراث العربي بأسلوب المقالات المبسّطة، وخامس للتعريف بالفنّ والفنّانين العرب والأجانب، وسادس للتعريف بالشخصيات الإسلامية، وسابع لتنمية المهارات وتحريض القدرات بأسلوب طرح المشكلات أو أسلوب الحوار حول قضية، وثامن للتحقيقات المصوّرة، وتاسع لطرائق عمل الآلات، وعاشر لدائرة المعارف، إضافة إلى الصفحات المخصّصة لإبداعات الأطفال ورسائلهم وعنواناتهم. ويتضح من أبواب المجلة شيء آخر إضافة إلى التنوّع هو الحرص على إضافة أبواب جديدة وعلى تعديل أساليب طرح الأبواب الثابتة. كما تتّضح رغبة المجلة في إقامة توازن بين الجانبين الأدبي والعلمي، وبين الماضي والحاضر، إضافة إلى عنايتها بتنوّع القيم وتنمية المهارات والقدرات. غير أنها -كسابقاتها- بعيدة عن زجّ الطفل في مشكلات الحاضر العربي إلا ما كان قوميّاً ليس بين الدول العربية خلاف حوله. كما بقيت القيم التي تُحرّض الطفل على التساؤل وتغرس فيه روح الديمقراطية والعدالة والحقّ قليلة فيها.‏

1-4: هناك ثلاث مجلات أخرى للأطفال تدخل سورية، هي مجلة (سعد) الأسبوعية التي تصدر عن دار (الرأي العام) للصحافة والطباعة والنشر في الكويت في 48 صفحة، ومجلة (سامر) الإسبوعية التي تصدر عن شركة أبي ذر الغفاري للطباعة والإعلام في بيروت في 52 صفحة، ومجلة (ماجد) التي تصدر عن مؤسسة الاتحاد في (أبو ظبي) عاصمة الإمارات العربية المتحدة. وعلى الرغم من التباين بين هذه المجلات في طبيعة الخطاب الثقافي فإنها تشترك في عدم تحديد جمهورها، وفي إخلاصها لقيم التسلية والترفيه، وفي تبعيّتها لإحدى دور النشر الصحفية. وخارج ذلك تمتاز مجلة سامر من مجلة سعد بالاهتمام بتنمية القدرات الإبداعية لدى الأطفال وخصوصاً القدرات الفنيّة، كما تمتاز مجلة سعد من مجلة سامر باعتماد العنصر النسوي في التحرير ومخاطبة الأطفال. وتختلف مجلة (ماجد) عن هاتين المجلتين بتنوُّع أبوابها، وتعدُّد وسائل اتصالها بجمهور الأطفال، وحرصها على تنويع مجموعات القيم، ومحاولتها الاتساع بالمعارف (دائرة معارف ماجد مثلاً)، والدقّة في التحرير، والعناية باللغة العربية، والالتزام الصارم بموعد التوزيع (يوم الأربعاء من كل أسبوع)، وكفاية عدد الصفحات (76صفحة).‏

1-5: أخلص من الحديث عن المجلات التي يقرؤها الطفل في سورية إلى النتائج الآتية:‏
أ-الخطاب الثقافي في المجلات كلها تقريباً موجّة إلى أطفال المرحلة العليا على اختلاف بينها في تحديد السنّ التي تتوقّف عنده. أما أطفال المرحلة الأولى فليست هناك مجلة موجّهة إليهم، في حين يعاني أطفال المرحلة الثانية من الترجُّح، إذ ليست هناك مجلة مخصَّصة لهم، ولكن المجلات كلها تُقدِّم نصوصاً صالحة لهم، تكثر أو تقلّ بحسب وعي القائمين على هذه المجلات. ولهذا الخلل مسوّغ معروف، هو أن أطفال المرحلة الأولى لا يعرفون القراءة ومن ثَمّ يعتمدون على النصوص المصوّرة التي لا تضمّ كلاماً. أما أطفال المرحلة الثانية فما زالوا في بداية تعلّمهم القراءة ومن ثَمّ يعتمدون على النصوص التي تضمّ عدداً قليلاً من الكلمات، في حين يستطيع أطفال المرحلة العليا التواصل مع النصوص كلها، سواء أكانت مصوّرة خالية من الكلمات أم مؤلّفة من الكلمات وحدها دون الصور. ولا شك في أن اهتمامات أطفال المراحل العمرية الثلاث متباينة، ولكن القائمين على المجلات أكثر معرفة باهتمامات أطفال المرحلة العليا، وأكثر جهلاً باهتمامات أطفال المرحلتين الأولى والثانية. كما أنهم لا يملكون الخبرات اللازمة للتوجُّه إلى أطفال المرحلتين الأوليين، في حين أصبح لديهم تراكم في الخبرات الخاصة بأطفال المرحلة العليا. وهذا كله يعني أن ثقافة الأطفال في سورية من خلال المجلات هي ثقافة مرحلة عمرية واحدة.‏

ب- الخطاب الثقافي الموجّه لأطفال المرحلة العليا مشبع بالقيم. وهذا أمر محمود لأنه ينم عن وعي القائمين على مجلات الأطفال بأهمية القيم في سلوك الطفل وشخصيّته. بيد أن هناك ملاحظتين تحتاجان إلى إنعام نظر: الأولى أن هناك تبايناً بين المجلات في القيم التي يبثها الخطاب الثقافي. فكل مجلة تهتمّ بعدد محدود من القيم يساعد الجهة التي تُصْدِر المجلة على تحقيق أهدافها. والملاحظة الثانية أن المجلات متفرّقةً ومجتمعةً لا تطرح منظومة متكاملة للقيم، بل تطرح بعضاً من هذه المنظومة. ويمكن التخفيف من الأثر السلبي للملاحظة الأولى إذا انطلقنا من أن المجلات بمجموعها تُشكّل كلاً واحداً بالنسبة إلى القيم في ثقافة الأطفال في سورية، فما تهمله إحداها تكمله الأخرى. وهذا الأمر ممكن في حيّز الفرضية، ولكنه غير ممكن في واقع القيم في ثقافة الأطفال في سورية، لأن القيم كلها مجتمعةٌ لا تُشكّل منظومة متكاملة كما نصّت الملاحظة الثانية. ويبدو أن المجلات العربية لا تسير في اتجاه اتساق نظام القيم لدى الأطفال(10)، ولا يُشكّل هذا الاتساق هاجساً من هواجسها على الرغم من أهميته في بناء شخصية سليمة للطفل خالية من الصراعات العصابية.‏

ت- إذا دققنا في أمر القيم بعيداً عن تباين المجلات وعزوفها عن طرح منظومة متكاملة لاحظنا الدافع التوجيهي الكامن وراء الاهتمام بالقيم، وكأن المجلات أُنشئت لهدف يتيم هو توجيه الأطفال إلى القيم الإيجابية. وهذا الأمر موضع مناقشة لدى العاملين في حقل ثقافة الأطفال، ولكنه مقبول لديّ إذا تمّ تغيير مركزه. ذلك لأن الدافع التوجيهي قاد إلى التركيز على القيم المعرفية، ومن ثَمّ غدت مجلات الأطفال نسخة معدّلة من المدرسة الابتدائية، أو أنها -في أحسن حالاتها- تُكرّر عملها ولا تسعى إلى التكامل معها بالتركيز على القيم الرئيسة في الشخصية (وهي: الحريّة والثقة بالنفس واحترام الرأي والرأي الآخر..)، أو السعي إلى تنمية الحس البديعي والقدرات الخلاّقة لدى الطفل. بل إنه من العبث الظنّ بأن حشو دماغ الطفل بالمعارف كاف للادّعاء بتقديم عمل جليل في الحقل الثقافي. ذلك لأن العصر الحديث عصر تفجُّر معرفي، ولا بدَّ من أن نربّي الطفل على القيم التي تجعله قادراً على التكُّيف مع عصر متغيِّر ثابت، معتمداً على عقله، منطلقاً من السؤال، باحثاً عن الحقّ، وما إلى ذلك من أمور قادرة على زجّ الطفل في واقعه وتهيئته للمستقبل.‏

ث-يتصل بالأمر السابق ذلك التناقض في الصورة التي ترسمها المجلات للمجتمع العربي. فهي-حين تتحدَّث عن الحاضر-ترسم صورة لحياة ماتعة بهيجة لا يُعكِّر صفاءها شيءٌ من المنغِّصات. ليس هناك، في هذه الصورة، ظلم ولا استغلال ولا قهر، بل هناك عدالة اجتماعية وسعادة وتعاون. غير أن الحديث، حيث ينتقل إلى الجانب القومي والوطني، تبرز فيه فلسطين المحتلّة والنضال في سبيل تحريرها، والعدوان الإسرائيلي على الجولان وجنوبي لبنان، وتكثر في هذا الحديث قيم الشهادة وحب الوطن ونفي العدوان. فيكف تكون الحياة بهيجة في المجلات والأطفال القرّاء يرونها على صورة أخرى في واقعهم المعيش؟.‏

ج-أُضيف إلى ما سبق قوله طغيان الطابع الأدبي على العلمي في المواد التي تنشرها المجلات كلها. وهذا الطغيان موضع سؤال، لأن الطابع الأدبي يعتمد اعتماداً رئيساً على الخيال والعاطفة، في حين يعتمد الطابع العلمي على العقل. والمعروف أن شخصية الطفل حين تفتقر إلى التوازن بين هذين الجانبين تبدو في المستقبل عاطفية غير عقلانية.‏

ح-ثمة ملاحظة أخرى تخصّ الجانب الفنّي في المجلات، هي قدرة اللوحات على تنمية الحس الجمالي لدى الأطفال. والحقّ أن المجلات التي تحدَّثتُ عنها لا تنقصها اللمسات الإبداعية للفنَّانين العرب، ولكنني أتساءل: لماذا تنحو اللوحات كلها منحى واقعياً وتبتعد عن الفنّ التشكيلي الحديث؟. هل يؤثّر ذلك في تربية الطفل على تذوُّق لون جمالي دون آخر؟. ألا يتكرّر الأمر نفسه حين نلاحظ انصراف هذه المجلات إلى الشعر الكلاسي وابتعادها عن الشعر الحديث؟.‏

خ-على أن المشكلة الرئيسة العامة هي اللغة. والسؤال الخاص بها هو: هل اللغة العربية الفصيحة المستعملة في مجلاتنا تلائم الطفل؟. إذا كانت كذلك فما المعيار الذي نقيس به هذه الملاءمة؟. وإذا لم تكن كذلك فما المعيار وما العمل؟. إن هناك تبايناً واضحاً بين المجلات العربية في استعمال اللغة، وكأن الشيء المشترك بينها هو ضعف معرفة الكُتَّاب بمعجم الطفل العربي، وليس ذلك موضع لوم، لأن هذا المعجم لم يُصْنَع بعد، بل إن الخطوات الأولى في اتجاه هذا العجم، كالرصيد اللغوي المشترك الذي صُنِع بإشراف جامعة الدول العربية، لم تصل بعد إلى الكُتَّاب والقائمين على مجلات الأطفال ليستفيدوا منها في أثناء عملهم.‏

-2-‏
تلك حال ثقافة الأطفال في المجلات، فما حالها في الكتب؟. أستطيع، في أثناء الإجابة عن هذا السؤال، التوقُّف عند مصدرين لإنتاج كتب الأطفال: الأول هو القطاع العام الممثَّل بوزارة الثقافة واتحاد الكُتَّاب العرب، والثاني هو القطاع الخاص الممثَّل بدور النشر المحلية والعربية والأجنبية.‏

1-2: أما القطاع العام فليست بين أيدينا قرارات تُنظِّم إنتاج كتب الأطفال فيه، أو تُحدِّد الأهداف المتوخاة منها، والمعروف أن عدد الكتب خاضع للخطّة السنوية للوزارة والاتحاد، وهذه الخطّة تتبع بشكل مباشر ميزانية هاتين الجهتين. وعلى الرغم من أهمية تحديد الأهداف الخاصة بكتب الأطفال فإن الباحث لا يبتعد عن الصواب إذا قال إن هاتين الجهتين الرسميتين لا تملكان تحديداً لأهدافهما الخاصة بإصدار كتب الأطفال، وإنهما رضيتا ببقاء هذه الكتب جزءاً من خطّة نشر كتب الكبار من جهة، وتابعة للمؤلّفين من جهة أخرى، وضمن الأهداف العامة لهما من جهة ثالثة. أما الخطّة فتحدِّدها الميزانية السنوية للوزارة والاتحاد، أيْ أن خطّة نشر الكتب محكومة دائماً بالتبعية للعامل الاقتصادي. وأما المؤلّفون فيكتبون ما يحلو لهم ثم يعرضونه على هاتين الجهتين ويتركون لهما فرصة قبول نشره أو رفضه. وهذا كله يوضِّح شيئين مهمّين: الأول تفاوت عدد الكتب المنشورة، وبالتالي تحكُّم المؤلفين في عدد الكتب ارتفاعاً وانخفاضاً.‏
فقد كانت وزارة الثقافة تنشر بين 1970-1973 كتاباً واحداً للأطفال في العام، ولكن العدد ارتفع إلى عشرة كتب عام 1974، ثم تدنّى إلى أربعة في عام 1975، ورجع عام 1978 إلى عشرة، ثم ارتفع إلى سبعة عشر كتاباً عام 1979، وثلاثين عام 1980، وأربعة وعشرين عام 1981، ثم تراجع إلى تسعة عام 1982، وثمانية عام 1984... كما نشر اتحاد الكتَّاب العرب كتاباً واحداً للأطفال عام 1975، ولم ينشر أي كتاب عام 1976، ونشر عام 1977 سبعة كتب، وأربعة عام 1978، وتسعة عام 1980، وخمسة عام 1981، وستة في عامي 1982 و 1983، وعاد إلى كتاب واحد عام 1984، وكتابين عام 1985، وسبعة عام 1986، وأربعة عام 1987، ورجع إلى كتاب واحد عام 1988. هذه الأرقام تدلّ دلالة واضحة على أنه ليست هناك خطّة ثابتة لنشر كتب الأطفال في وزارة الثقافة واتحاد الكُتَّاب. صحيح أن هاتين الجهتين تُحدِّدان في خطّتهما السنوية العدد الذي ستنشرانه من كتب الأطفال، إلا أنهما لا تستطيعان دائماً تنفيذ هذه الخطّة لسبين نراهما يتكرَّران كثيراً، الأول: الخلل الذي يُصيب ميزانيتهما السنوية مما يضطرهما إلى تقليص عدد الكتب في الخطّة، والثاني: إقبال المؤلّفين أو إحجامهم عن تقديم مخطوطاتهم إلى الوزارة والاتحاد، مما يجعل الكتب أقلَّ من الخطّة أو أكثر منها. وقد تؤثِّر عوامل أُخرى في الخطّة، كالأحداث الخاصة بالطفل، كما هي حال العام الدولي للطفل (عام 1979) الذي رفع عدد الكتب الأطفال في الوزارة إلى سبعة عشر كتاباً عام 1979، وثلاثين عام 1980، وأربعة وعشرين عام 1981، وجعل العدد في اتحاد الكُتَّاب في السنوات نفسها: 8-9-5 على التوالي. ذلك لأن هذه الأعوام الثلاثة شهدت إقبالاً من المؤلّفين على تقديم مخطوطاتهم للوزارة والاتحاد، واكبته رغبة الجهتين نفسيهما في الاهتمام بهذه الثقافة الجديدة (آنذاك) تلبية لحاجة العام الدولي ولنموّ الوعي بأهمية الطفولة في حاضر المجتمع العربي ومستقبله.‏
أخلص من الحديث السابق إلى أن ثقافة الأطفال المستمدّة من الكتب في سورية حَكَمَها عاملان رئيسان، هما العامل الاقتصادي والعامل الفردي الخاص بالمؤلّفين. كما أن مهمّة الجهتين الرسميتين اقتصرت على رقابة الكتب وإصدارهما. ولا أُقلّل من أثر وزارة الثقافة واتحاد الكتَّاب في ثقافة الأطفال في سورية من خلال رقابتهما كتب الأطفال، وسعيهما إلى إصدارها، ولكنني أصف حالهما، وأرغب في الإشارة إلى الخطر الذي تجرُّه التبعية للعامل الاقتصادي. فهذه التبعية هي التي قادت الجهتين المذكورتين في بعض السنوات إلى تقليص عدد كتب الأطفال، أو التلكّؤ في إصدارها. يؤكّد ذلك ما جرى في السنوات نفسها من تقليص عدد صفحات مجلة أسامة وتلكّؤ إصدارها وإصدار كتاب أسامة الشهري. وقد تجلّت التبعية للعامل الاقتصادي في شيء آخر هو إخراج كتب الأطفال على هيئة كتب الكبار، سواء أكان الأمر يتعلّق بالحجم الصغير للكتاب أم يتعلّق بخلوّه من الشكل والهمزات واللوحات المناسبة للنصوص. وهذه القضايا ليست شكلية، لأنها مرتبطة بالطفل المتلّقي. فطفل المرحلة العليا يقبل الحجم الصغير، ولكن طفل المرحلة الثانية يحتاج إلى الحجم الكبير. كما أن أسلوب الطباعة مرتبط بتنمية اللغة لدى الطفل القارئ، كما ترتبط اللوحات بتنمية الحس الجمالي لدى الطفل إضافة إلى مساعدته على فهم الرموز واللغوية التي يقرؤها (11). وتختلف كتب اتحاد الكُتَّاب العرب قليلاً عن كتب وزارة الثقافة في أمور الطباعة واللوحات، وتلتقيها في الحجم الصغير. فقد حرص الاتحاد على الضبط بالشكل، وبالغ أحياناً فضبط النص ضبطاً كاملاً، وكلَّف فنَّانين برسم لوحات للكتب، ولكنه لم يبذل من المال ما يكفي لتقديم لوحات فنيّة جيّدة تُنمّي الحس الجمالي للطفل القارئ، وعزف عن وضع هذه اللوحات إلى جانب الرموز اللغوية المعبِّرة عنها مما جعلها ضعيفة التأثير في الطفل. ولم تقتصر التبعية للعامل الاقتصادي على هذه الرموز، بل امتدّت إلى عدد النسخ المطبوعة من كل كتاب، بحيث لم يكن العدد في أحسن حالاته يتجاوز خمسة آلاف نسخة، مما جعل كتب الوزارة والاتحاد عاجزة عن سدّ الحاجات الثقافية للأطفال في سورية. وزاد الطين بِلَّة سوء التوزيع، وإنْ تمكَّن الاتحاد في السنوات الأخيرة من التخفيف من الأثر السلبي لهذا الأمر بعقد اتفاق مع وزارة التربية نصَّ على شراء ثمانية آلاف نسخة من كل كتاب، مما جعله يرفع عدد النسخ المطبوعة إلى اثني عشر ألف نسخة، وهو أعلى رقم بلغه كتاب للأطفال في سورية. وحين عُطِّل الاتفاق رجع عدد النسخ المطبوعة إلى حاله السابقة مباشرة.‏
إذا تركنا العامل الاقتصادي واجهتنا طبيعة الكتب التي نشرتها الجهتان المذكورتان. والحديث عن هذه الطبيعة ذو شجون، ولكنني قادر على اختزالها في أمرين: أمر الكتب المترجمة وأمر الكتب الموضوعة باللغة العربية. أما الكتب المترجمة فتنفرد وزارة الثقافة بها وإنْ نشرت عدداً لابأس به من الكتب الموضوعة باللغة العربية. والحقّ أن الفضيلة الأولى لوزارة الثقافة في حقل كتب الأطفال هي جعل جانب من أدب الأطفال العالمي في متناول الطفل العربي. إذ قدَّمت له بعض مؤلَّفات اينيد بلايتون الانكليزية، ودي سيغور الفرنسية، والأخوين غريم الألمانيين، وأندرسن الدانماركي، وكاراليتشف البلغاري.... بيد أن هذه الفضيلة لم تكتمل، لأن الوزارة افتقرت إلى خطّة ناظمة لترجمة أدب الأطفال. ويتضح الخلل والخطر النابعان من غياب الخطة إذا لاحظنا أن الترجمة تمّت بالدرجة الأولى عن الفرنسية، ثم الانكليزية والروسية(12)، وكان هناك إهمال للغات العالمية الأخرى كالإسبانية والإيطالية والألمانية، مما ينسجم والتشوُّه في حركة الترجمة في سورية، ويعكس علاقات الهيمنة وعدم التكافؤ السائد في العلاقات الثقافية الدولية(13)، ويرسِّخ التبعية الثقافية. وتبرز هنا قضية تحكُّم المترجمين في طبيعة أدب الأطفال المترجم، وخصوصاً اختيار الكتب المترجمة التي تفتقر إلى التكامل في تقديم صورة سليمة لأدب الأطفال في العالم، والترجُّح بين ترجمة الأدب الكلاسي وترجمة الأدب المعاصر، مما طرح مشكلة تلاؤم المختار من هذه الكتب مع الأهداف العامة للتربية في سورية وطبيعة المجتمع العربي.‏
وما هو أكثر خطراً مستوى المترجمين باللغة العربية. فمجموعة (الأرنب المخملي) التي ترجمتها رباب هاشم-على سبيل التمثيل لا الحصر-تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الصوغ الفنّي، وإلى التماسك في التراكيب، والدقّة في اختيار الألفاظ(14). كما تطرح مجموعة (الأرنب والتمساح) لاينيد بلايتون قيماً سلبية موشَّحة بلبوس فنّي شائق، تغرس في الطفل القارئ نزعات فردية ذاتية من خلال عنايتها بنموذج الماكر الفائز بلذاذات الحياة دون عقاب على الذنوب التي اقترفتها يداه كما وضَّحتُ سابقاً، ولعل حلّ قضية أسلوب الترجمة وسوء الاختيار يقع على عاتق وزارة الثقافة كما يقع عليها عبء الإخراج الفنّي للكتب بحيث تلتفت إلى التقليل من عدد النصوص في الكتاب الواحد، وتُكْثِر من عدد اللوحات الملوَّنة، وتجعل بنط الحرف كبيراً مضبوطاً بالشكل ضبطاً تدريجيّاً(15).‏
أما الكتب الموضوعة أساساً باللغة العربية فيمكن الاطمئنان إلى جودة مضمونها والتزامه. ولكن الثقافة التي طرحتها هذه الكتب أدبية وليست علمية، ولولا بعض كتب الخيال العلمي لقلتُ إن العلم لا أثر له في الثقافة المستمدّة من الكتب في سورية. واللافت للنظر أن تفتقر الكتب الأدبية نفسها إلى التوازن، إذ إنها قصصية في الغالب الأعم، ومسرحية وشعرية في الندرة، حتى إن الباحث لا يخطئ حين ينصّ على أن الثقافة الأدبية في سورية هي ثقافة قصصية. ولا يظنّنَّ أحد أن هذه الثقافة القصصية تخلو من المشكلات الداخلية. فهي تعاني من مشكلة القيم التي سبقت الإشارة إليها غير مرّة، وخصوصاً التركيز على القيم المعرفية. وقد ثبت لي من خلال تحليل المحتوى القيمي في ثماني مجموعات قصصية(16) أنْ ليس هناك اختلاف ذو دلالة إحصائية بين نتائج دراسة القيم في قصص الأطفال المطبوعة في كتب الأطفال المطبوعة في المجلات(17).‏
ثم إن الثقافة القصصية تعاني من الخلل في المفهومات التي تساعد على تطوّر العالم الروحي للطفل، وتنمّي قدرته على التفكير والشعور، كحب الناس والحيوانات والطبيعة والشعور بالصداقة والعرفان بالجميل وحب الاطلاع، أو الأشكال التي تظهر فيها الحياة، كالخير والشرّ، والكذب والحقيقة، والشجاعة والجبن، أو كل ما يغني روح الطفل ويمدّه بغذاء فكري ذي مستوى رفيع، ويُربّي فيه الشعور بالجمال والحافز على النضال في سبيل تحقيق المثل العليا(18). وأبرز هذه المفهومات الأنسنة والمفهوم الأسطوري والمفهوم الإنساني ومفهوم الطفولة. فمفهوم الأنسنة يعني خلع صفة الحياة على الحيوانات وأشياء الطبيعة بغية تفسيرها وتعليل تصرُّفاتها وصورها الخارجية وطباعها. ويستند هذا المفهوم إلى ضعف ارتباط الطفل بالواقع، ولكن القاصين بالغوا في الاهتمام به، فجعلوا أشياء الطبيعة والحيوانات رموزاً تحمل أفكارهم وعالمهم إلى الأطفال، وكأن هؤلاء القاصين يقولون عن طريق الحيوانات وأشياء الطبيعة ما لم يستطيعوا قوله في كتاباتهم الموجَّهة إلى الكبار. أما المفهوم الأسطوري فهو الاعتماد على الخيال في خلق شخصيات لا أساس لها في الواقع كالساحرات والعمالقة والأشباح وغير ذلك مما يؤمن الطفل بوجوده في الواقع. ولم تحسن القصص تطوير النظرة التقليدية إلى هذا المفهوم، فطرحت شخصيات أسطورية تبث الرعب في الطفل، ولم تطرح شخصيات أسطورية إيجابية تناضل في سبيل النهوض بالمجتمع ورفع الظلم والاستغلال عن أبنائه. كذلك الأمر بالنسبة إلى المفهوم الإنساني ومفهوم الطفولة، إذ يعني الأول تعلُّم الأطفال من خلال القصص أساليب مواجهة الحياة مع الانحياز إلى الجانب الإنساني فيها. كما يعني الثاني الحرص على طرح انطباعات معيّنة عمّا يجري في بيئة الطفل حتى إذا تكوَّنت طباعه جاء تكوينها سليماً، ويعني أيضاً الإفادة من المفهومات الشائعة في علم نفس الطفل من نحو: خالفْ تُعْرَفْ-أهمية التعريف بالبيئة المحيطة-التمركز حول الذات-وما إلى ذلك من أمور لم تُحسن الثقافة القصصية الإفادة منها، فطرحت حياة بهيجة وتركت الطفل يعيش فيها ثم يواجه حياة مغايرة في واقعه دون أن يملك ما يساعده على تعليل التناقض بينهما.‏

2-2: هناك كتب أخرى للأطفال طرحتها في السوق المحلية السورية دور نشر خاصة محلية وعربية، ودور نشر أجنبية أبرزها دار التقدُّم بموسكو. وليس هناك ناظم واحد لكتب هذه الدور المختلفة، إلا أن الباحث قادر على ملاحظة شيء مشترك بينها أغفلته وزارة الثقافة كما أغفله اتحاد الكُتَّاب، هو العناية بإخراج كتب الأطفال، سواء أكان الأمر يتعلّق بالحجم أو نوع الورق أم الطباعة المشكولة أم تعدُّد اللوحات وفنّيّتها. أما المضمون فمختلف جداً بين هذه الدور. فهناك مضامين سلبية وأخرى إيجابية بحسب وعي القائمين على الدار وبعدهم أو قربهم من الهدف التجاري. ويستطيع الباحث تمييز الدور الجيّدة كداري الفتى العربي والنورس في لبنان، ودار نشر منظمة الطلائع في سورية، وداري التقدُّم ورادوغا بموسكو. إذ تُعَدّ الكتب الصادرة عن هذه الدور نموذجاً للدّقة شكلاً ومضموناً. ويمكن القول إن التي كانت ترد إلى سورية من الاتحاد السوفييتي السابق تُعَدّ نموذجاً للكتب المترجمة يستحق أن يُحْتَذى. فقد عُنيتْ دار التقدُّم ودار رادوغا بكتب الأطفال ابتداءً بحجمها وانتهاءً بأدقّ جزئيّات طباعتها. كما كانتا تنتقيان نصوصاً للأطفال كتبها أدباء ومؤلّفون معروفون، وتعطيها لأديب يتقن الروسية والعربية إضافة إلى اختصاصه بالحقل الذي يترجم فيه، ثم تُعْنَى بلوحاتها وطباعتها وتُصدِّرها إلى البلاد العربية بثمن بخس(19). كما يمكن عدّ الكتب العلمية المبسَّطة التي نشرتها منظمة طلائع البعث نموذجاً للكتب التي تُزوّد الطفل بزاد علمي ملائم. ولابدّ من الإشارة إلى اتجاه دار النورس إلى نشر الكتب القصصية التي تلائم أطفال المرحلة العمرية الثانية، واتجاه دار الفتى العربي نحو نشر الحكايات التسجيلية(20)، وهذان الاتجاهان يعدّان تعديلاً للاتجاه السائد وسدّاً للنقص فيه.‏

-3-‏
أخلص من التحليل السابق إلى نتائج تُوضِّح طبيعة تكوين ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات. ويمكن اختزال هذه النتائج في النقاط الآتية:‏

1-إن ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات ثقافة جادة ملتزمة، تشغلها مهمّتان رئيستان هما: المهمّة المعرفية والمهمّة القومية. أما المهمّة الأولى المعرفية فتعكس الفهم العام للطفل لدى القائمين على شؤون ثقافته، ومفاد هذا الفهم أن الطفل راشد مصغَّر يحتاج إلى تعليم ورعاية من الكبار. ولا يختلف هذا الفهم بين الجهات الرسمية والخاصة، مما ينمّ عن أنه راسخ في الوجدان الجمعي للمجتمع، وعن أن علم نفس الطفل لم يستطع، بعد، التغلغل في هذا الوجدان الجمعي بغية تعديل رؤيته الطفل وتغيير مضمون الخطاب الثقافي الموجَّه إليه. وأما المهمّة القومية فتعكس طبيعة المجتمع والسياسة في سورية، وهي طبيعة قومية تنفر من أي اتجاه قطري. ولئن كانت انعكاساً بديهياً لظروف المنطقة العربية في صراعها مع العدو الإسرائيلي، فإن جذورها راسخة في المجتمع العربي السوري ابتداءً من عام 1937. إذ كانت سورية، بعد تصديق البرلمان على المعاهدة السورية الفرنسية التي نصّت على الاستقلال، أول دولة عربية تُقيم معاهدة تجارية مع دولة عربية أخرى هي العراق. وهذا يعني بالنسبة إليَّ أن المجتمع ينقل إلى الأطفال بوساطة الكتب والمجلات الثقافة القومية التي يُحبِّذها ويراها جزءاً من هويّته وآماله.‏

2-إذا كانت المهمّتان المعرفية والقومية تعبيرين واضحين عن أن الراشد يريد أن يصنع الطفل على هيئته ومثاله، فإنه يسهل بعد ذلك تعليل النزعة التوجيهية المسيطرة على الكُتَّاب، وسيادة الطرح المباشر للقيم في النصوص المنشورة في الكتب والمجلات. ذلك لأن الراشد-وهو محقّ في أن ثقافة الأطفال لا تنفصل عن ثقافة الكبار- تقمَّص موقف المعلّم وراح يعظ الطفل ويُعلّمه الحقائق ويربِّيه على القيم السامية. وقد فاته أن المعلّم مضطر إلى هذا الأسلوب داخل المدرسة الابتدائية، وأن الطفل يعي ذلك ويقبله على مضض، ولكنه لا يقبل الموقف نفسه من الكاتب في المجلة والكتاب لأنه ليس مجبراً على القراءة. وإذا كان مجتمع الأسرة والأقران يضغط على الطفل ويجبره على دخول المدرسة، فإن الثقافة خارج المدرسة فعل حرّ لا يُجبره عليه أحد. ومن ثَمَّ تكمن العلّة في المرسِل ولا تكمن في الرسالة. أو هي تكمن في الراشد الذي لا يملك الوسيلة ولا يعرف الطفل المتلّقي لها، ولا تكمن في المهمّتين المعرفية والقومية المراد تربية الطفل عليهما من خلال الثقافة التي تبثها الكتب والمجلات. وهذا كله يُحدِّد ثغرتين لابدَّ من ترميمهما إذا رغبنا في أن تُؤدَّى المهمّتان المعرفية والقومية اداء سليماً لتصبح قيمهما دافعاً إلى سلوك الطفل. الثغرة الأولى هي التدقيق في طبيعة الثقافة، والثانية معرفة الطفل المتلقّي.‏

3-تهمّني من معرفة الطفل المتلقّي قضية رئيسة هي أن الثقافة لا تُصبح جزءاً من سلوك الطفل إذا لم تتمكّن من إقناعه والتأثير فيه. فإذا راحتْ تعظه وترشده نفر منها وأهملها. ولا تستطيع الثقافة توفير التأثير والإقناع إذا لم تكن ماتعة يحبها الطفل ويُقْبِل عليها لما يجد فيها من متعة وتشويق. ولا سبيل إلى توفير الإمتاع والتأثير والإقناع إذا لم تكن الثقافة مخلصة لطبيعتها، وهي هنا طبيعة فنّية، لأن النصوص السائدة في الكتب والمجلات أدبية الطابع. وهذا هو الفارق الأساسي بين ثقافة المدرسة وثقافة الكتب والمجلات. فالأولى تلجأ إلى الوسائل المباشرة كالتلقين والحضّ والإرشاد والمنع والترغيب والترهيب، في حين تعاف الثانية ذلك وتروح تُعبِّر عن وظيفتها بوساطة الفن. إنها ثقافة تنقل المعارف والقيم بشكل ضمني غير مباشر، بوساطة الحكاية الشائقة(21)، والحبكة الماتعة، والبطل القريب من عالم الأطفال والحوادث المستمدّة من البيئة، وما إلى ذلك من أمور الصوغ الفنّي للثقافة القصصية. ولا شك في أن الطبيعة للثقافة تختلف باختلاف الجنس الأدبي، فهي في الشعر صورة مجنَّحة، ونغم حلو، ولفظ رشيق مأنوس، وهي في المقالة تعبير دقيق عن الفكرة، وعرض منطقي للمعلومات والأفكار. وهي في المسرحية صراع واضح بين الشخصيات، وحوار وظيفي معبِّر. وليس الغرض هنا تحديد الطبيعة الفنيّة للثقافة(22)، ولكنني أودّ تأكيد طبيعتها الضمنية غير المباشرة في التعبير عن وظيفتها، سواء أكانت هذه الوظيفة معرفية أم قومية أم اجتماعية أم غير ذلك. فثقافة الأطفال المستمدّة من الكتب والمجلات لم تعر طبيعة الثقافة ما تستحق من تدقيق، ولم تُقِمْ توازناً بين وظفتها وطبيعتها، وهي قبل ذلك كله لم تسأل نفسها عن الطفل الذي تتوجَّه إليه: ما حاجاته ورغباته وميوله؟ ماذا يحب وماذا يكره؟ ماالذي يلائمه وما الذي لا يستطيع التواصل معه؟ كيف يتم تقديم الثقافة إليه؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تضمن للقائمين على ثقافة الأطفال في سورية وفي غيرها من الدول العربية معرفة مقبولة بالطفل، وتُحدِّد لهم الأسلوب الملائم للتأثير فيه وإقناعه وإمتاعه.‏

4-إذا كان التركيز على الجانبين المعرفي والقومي كافياً لوصف ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات بأنها ثقافة جادة ملتزمة، فإنه ليس كافياً لوصفها بالشمولية. ذلك لأن التركيز على هذين الجانبين لا يعني شيئاً خارج سيادة قيمهما على قيم أخرى لابدَّ منها لتكوين شخصية الطفل السليمة. ولا أشك في أن ثقافة الأطفال طرحت قيماً أخرى اجتماعية وترويحية وجسدية واشتراكية واقتصادية، إلا أنها غفلت عن أن القيم تُشكِّل منظومة لابدَّ منها مجتمعةً إذا رغب القائمون على ثقافة الأطفال في سورية في وصف عملهم بالشمولية التي تقود إلى بناء جوانب الشخصية كلها بناءً متوازناً. والحقّ أن هذه المنظومة مازالت غائبة على الرغم من وضوح الأهداف العامة للتربية. وليس هناك تعليل مقبول لغيابها غير ضعف الثقافة التربوية للقائمين على ثقافة الأطفال ومنتجيها. وإذ1 تذكَّرنا هنا أن الطابع العام لثقافة الأطفال في سورية هو الطابع الأدبي وليس الطابع العلمي، أدركنا جانباً آخر من الخلل في القيم المطروحة على الطفل، هو سيادة الحقائق الاحتمالية وضعف الحقائق اليقينية. ذلك لأن الحقائق الأدبية احتمالية دائماً، في حين تتصف الحقائق العلمية باليقينية النسبية، مما يشير إلى أننا نُكوِّن ثقافة الوجدان ونكاد نهمل ثقافة العقل، فننمّي جانباً من شخصية الطفل على حساب جانب آخر لا يقلّ عنه أهميّة وأثراً في البناء السليم للشخصية. بل إننا لا ننمّي الجانب الذي نهتمّ به تنمية شاملة لأننا نفتقر إلى معرفة كافية بمنظومة القيم.‏

5-ثم إن ثقافة الأطفال في سورية من خلال الكتب والمجلات ثقافة مرحلة عمرية واحدة هي المرحلة العليا (9-12سنة)، وليست ثقافة الأطفال بالمعنى الدقيق الذي يشمل المراحل العمرية الثلاث. ولا شك في أن العمل الثقافي مع أطفال المرحلة العليا أكثر سهولة من العمل الثقافي مع أطفال المرحلتين الأولى والثانية، لأن أطفال المرحلة العليا يتقنون آلية القراءة وهي الوسيلة الرئيسة في الكتب والمجلات، ولأن ميول هؤلاء الأطفال أكثر وضوحاً للقائمين على الكتابة والإشراف من ميول أطفال المرحلتين الأخريين. إلا أن ذلك لا يحجب عنا مسوِّغاً موضوعياً آخر هو أن التكلفة الاقتصادية للإنتاج الثقافي الموجِّه إلى أطفال المرحلتين الأولى والثانية أكثر ارتفاعاً، لاعتماد هذا الإنتاج على الصورة بدلاً من الكلمة، وعلى التقنيات الطباعية الخاصة بدلاً من التقنيات العامة المألوفة. ونحن في حال تبعية ثقافة الأطفال للعامل الاقتصادي لا نستطيع توفير المال الكافي لإنتاج الثقافة المناسبة لأطفال المرحلتين الأوليين. ومن ثَمَّ نضطر إلى جَعْل ثقافة الأطفال ثقافة مرحلة عمرية واحدة، كما نضطر في أحايين كثيرة إلى تقليص ثقافة هذه المرحلة العليا إذا تقلَّصت الميزانية.‏

6-ومن المفيد القول إن ثقافة المرحلة العليا تعاني من نقص لابدّ من العمل على تلافيه. وكنتُ أشرتُ إلى شيء من هذا النقص حين تحدَّثتُ عن افتقارنا إلى منظومة متكاملة للقيم، وإلى عدم التوازن بين الأجناس الأدبية، وإلى غلبة الطابع الأدبي على الطابع العلمي، وإلى ضعف المفهومات الداخلية المستمدّة من حاجات الطفل ورغباته، وإلى سيطرة النزعة التوجيهية. وأستطيع هنا الإشارة إلى جوانب أخرى كافتقارنا إلى خطّة متكاملة للترجمة من الثقافة الأجنبية، وإلى ابتعادنا عن الواقع، وتناقض طرحنا بين الحياة البهيجة في الكتب والمجلات وما يضمّه الواقع من شؤون وشجون، وضعف معرفتنا الطفل المتلقّي. ولا شك في أن هذه النواقص تُعبِّر عن أن العمل مع الأطفال في الحقل الثقافي مازال اجتهادياً ولم يُصبح بعد عملاً علمياً تقوده استراتيجية واضحة محدَّدة شاملة، تنبع منها أهداف ملائمة تُزوِّد الطفل بثقافة مناسبة وتُعِدّه لدخول مرحلة المراهقة.‏

*‏
وبعد، فتكوين ثقافة الأطفال من خلال الكتب والمجلات ليس معزولاً عن المؤثِّرات، فهو خاضع سلباً وإيجاباً لتأثيرات التربية النظامية المدرسية في ترسيخ عادة المطالعة لدى الأطفال، والتحدّي الذي تواجهه الكلمة المقروءة في الكتب والمجلات من التلفاز، وسوء توزيع الكتب والمجلات، وضعف الإيمان في المجتمع الاستهلاكي بجدوى الثقافة، وفقدان التكامل بين الجهات العاملة في حقل ثقافة الأطفال. وهناك، دائماً، مؤثِّرات إيجابية إلى جانب المؤثِّرات السلبية، تبدو ضعيفة أوّل وهلة، ولكنها تملك التفاؤل والعمل الدؤوب والإيمان بثقافة الأطفال، مما يزوّدها بالقوة لمجالدة الصعاب، ويؤهّلها للتبشير بمرحلة جديدة في تكوين ثقافة الطفل العربي. وهذه المرحلة الجديدة تعالج أدواء الحاضر، وتسعى إلى إعداد الطفل العربي للمستقبل. ولابدَّ-في هذه الحال- من وضْع الصوى أمام الثقافة المستقبلية التي سنجعلها موضوع المعالجة في الفصل لتكتل استراتيجية تثقف الطفل العربي.‏

الإحالات:‏
(1): انظر مناهج المرحلة الابتدائية (القرار 1285-تاريخ17/9/1967) وزارة التربية- دمشق 1973.‏
(2): القرار رقم 160- تاريخ 19/3/1969.‏
(3): انظر ص 222 من: حاتم، دلال-صحافة الطفل، قياس الشكل والمضمون-محاضرة في حلقة بحث (جمهور الأطفال والثقافة)-الرقة 1985.‏
(4): المرجع السابق نفسه- ص 224/225 (بتصرف).‏
(5): ماعدا عام 1980 الذي نشرت فيه أربعة عشر مسلسلاً.‏
(6): انظر ص 80 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي-ثقافة الطفل العربي-اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1987.‏
(7): تحديد نهاية هذه المرحلة بالثالثة عشرة للمشرفين على المجلة. انظر ص 191 من: زهدي، ياسين-قياس قوة التأثير على جمهور الأطفال قبل الإصدار-محاضرة في حلقة بحث (جمهور الأطفال والثقافة)-الرقة 1985.‏
(8): المرجع السابق نفسه- ص190/191 (بتصرف وإيجاز).‏
(9): تحديد نهاية هذه المرحلة بالرابعة عشرة للمشرفين على المجلة. انظر مقدمة العدد التمهيدي من مجلة العربي (صفر-1)-تشرين الأول 1985.‏
(10):للتفصيل انظر مشكلة القيم في ص 9 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي-مشكلات قصص الأطفال في سورية- اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1981.‏
(11):انظر تفصيلات وافرة عن هذه الأمور في المرجع السابق- ص79 وما بعد.‏
(12):نص عبده عبود على أن وزارة الثقافة ترجمت في خمس سنوات (1981/1985) واحداً وخمسين كتاباً، منها 33 عن الفرنسية، و6 عن الانكيزية، و5 عن الروسية. انظر اقتراب أولي من أدب الأطفال المترجم في سورية-مجلة الموقف الأدبي-العدد 208/209/210-تشرين الأول 1988.‏
(13): المرجع السابق -ص 26.‏
(14): انظر القصص المترجمة في ص70 وما بعد من: الفيصل، سمر روحي-مشكلات قصص الأطفال في سورية.‏
(15): المرجع السابق نفسه- ص72/73.‏
(16):المرجع السابق نفسه- ص 11 وما بعد.‏
(17): راجع نتائج الدراسة في المرجع السابق نفسه -ص 15 وما بعد.‏
(18): انظر ص 21من: ميخالكوف، سرغي-كل شيء يبتدئ من الطفولة-دار التقدُّم- موسكو 1978.‏
(19): من الأمثلة على ذلك: ماذا يرسم هؤلاء؟ لفياتشلاف ليخكوبيت، ترجمة: بكر يوسف، الأسد والكلب لتولستوي، ترجمة: غائب فرمان. عمي النمر لفاسيليفيسكايا، ترجمة بكر يوسف.‏
(20): انظر دراسة هذه الحكايات في ص135 وما بعد من: أبوهيف، عبد الله-أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً- اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1983.‏
(21): خصًّ الدكتور عبد الرزاق جعفر الحكاية في أدب الأطفال بكتاب مستقل عنوانه: الحكاية الساحرة-اتحاد الكتاب العرب-دمشق 1985.‏
(22): لتفصيل الحديث عن الموقف الفني في معالجة الموضوع القومي في ثقافة الأطفال انظر ص 104 وما بعد من: أبوهيف، عبد الله-أدب الأطفال نظرياً وتطبيقياً.‏

المصدر
http://www.awu-dam.org/book/98/study...ok98-sd006.htm













التوقيع
تكون .. أو لا تكون .. هذا هو السؤال
  رد مع اقتباس