منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات » منتديات اليسير العامة » المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات » الورق فى الحضارة الإسلامية

المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات هذا المنتدى يهتم بالمكتبات ومراكز المعلومات والتقنيات التابعة لها وجميع ما يخص المكتبات بشكل عام.

إضافة رد
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم Oct-18-2007, 03:29 PM   المشاركة1
المعلومات

السايح
مشرف منتديات اليسير
محمد الغول

السايح غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 16419
تاريخ التسجيل: Mar 2006
الدولة: فلسطيـن
المشاركات: 1,360
بمعدل : 0.21 يومياً


افتراضي الورق فى الحضارة الإسلامية


أخذ العرب صناعة الورق من بلاد الصين

الورق فى الحضارة الإسلامية (1/2)



د. بركات محمد مراد*

"فى سوق الكتب عند بوابة البصرة ببغداد، التى كانت تضم أكثر من مئة متجر، كان المتعلمون من كل أنحاء العالم الإسلامى يجتمعون. هنا يفتش الفيلسوف والشاعر والفلكى عما صدر حديثا من الكتب، وهناك ينقب الطبيب والمؤرخ وجامع الكتب عن النسخ القديمة، وهنا وهنالك يتناقشون جميعا ويتبادلون المعرفة أو تقرأ عليهم برمتهم مقتطفات مما كتب" - المستشرقة زيغريد هونكه

يمكننا اعتبار صناعة الورق التى أخذها العرب من بلاد الصين، الموطن الأول لاختراعه، من أهم الإنجازات التى ساهم العرب بها فى دفع عجلة التطور الحضارى والثقافى خطوات واسعة إلى الأمام، ليس فى الشرق فحسب، بل وفى الغرب أيضا. إذ من المعلوم أن أوربا قد عرفت صناعة الورق عن طريق العرب، ولولاهم لما عرفت أوربا عصرا مثل ذلك الذى سُمى فى تاريخنا بعصر النهضة، حيث التطور السريع والشامل فى مختلف العلوم والفنون والآداب، والذى كان فيه الورق، من أهم العوامل التى حققت ذلك التقدم، بل هو أجمل هدية منحها المشرق الإسلامى إلى الغرب الأوربى فى هذا المجال.

ولقد بدأ العرب تدوين نتاجاتهم الفكرية والأدبية بأدوات بدائية منها: جريد النخل اليابس، والحجارة البيضاء، وأكتاف وأضلاع الإبل والأغنام، والجلود، والقماش الأبيض، وورق البردى الذى حظى بشهرة كبيرة فى العصر العباسي، وكان أكثر تلك الأدوات استعمالا. أما الورق فقد ظهر كمنافس جدى للبردى من عام 133هـ، أى بعد فتح العرب لمدينة فرغانة حيث عادوا بعشرين ألف أسير، بينهم بعض الصينيين الذين يتقنون صناعة الورق، وهؤلاء نقلوا هذه الصناعة إلى العرب، ومنذ ذلك الحين أسهم ظهور الورق مساهمة فعالة فى ازدهار حركة التأليف والكتابة لسهولة تداول المخطوط الورقى بين الناس. بل ساهم فى حركة الترجمة الضخمة التى قام بها العرب والمسلمون لنقل مختلف العلوم والفنون والآداب من الحضارات والثقافات القديمة كالفارسية والهندية واليونانية إلى اللغة العربية.

وفى هذا يذكر المستشرق ستانوود كب أن "العرب قد تعرضوا فى سمرقند الواقعة إلى الشمال من الهند مباشرة لهجوم الصينيين عام 134 هـ/751م، وفى أثناء صد هذا الهجوم بنجاح وقعت يد الحاكم العربى على أول قطعة من الورق أتيح لها أن تجد طريقها إلى الغرب من الصين حيث جاء اختراع الورق هناك قبل زمن المسيح".

وأقبل الحاكم العربى فى لهفة على استقصاء الأمر من أسرى المعركة، فعلم أن من بينهم من يحذق هذه الصناعة. فأرسل هؤلاء الصناع إلى فارس ومصر ليضطلعوا بتعليم فن صناعة الورق من الكتان والخرق والألياف النباتية. وربما جاء اهتمام العالم العربى بصناعة الورق على صورة غير عادية نتيجة لسابق معرفته بالبردى المصرى Papyrus الذى كان قد أخذ يحل محل الرق Parchment الباهظ الثمن. وكانت صناعة الورق البردى تكاد تكون متشابهة، ولكن الورق أفضل كثيرا بالنسبة للطباعة.

انتشار صناعة الورق

ولقد أسس الفضل البرمكى عام 794م أول صناعة للورق فى بغداد، ومن ثم انتشرت الصناعة بسرعة فائقة فى جميع أنحاء العالم الإسلامي، فدخلت سوريا ومصر وشمال إفريقيا وأسبانيا. وتحسنت الصناعة تحسنا ملموسا بسرعة كبيرة وأنتجت المصانع أنواعا ممتازة من الورق. أما المداد "الحبر" فلقد كان العرب يستوردونه من الصين. أو يصنعونه محليا من الزاج أو العفص، أو الصمغ أو الرماد. وهذا أمر أدى إلى تسهيل إنتاج الكتب بطريقة خيالية عما كان عليه الأمر فى أى وقت مضى.

ففى أقل من قرن من الزمان انتشرت مئات الآلاف من النسخ، فى جميع أنحاء العالم الإسلامي، من قرطبة فى الأندلس إلى سمرقند فى الصين، ويكفى هنا أن تتأمل مقولة جوستاف لوبون المعبرة: "ظل الأوربيون فى القرون الوسطى زمنا طويلا لا يكتبون إلا على رقوق "من جلد الحيوان" وكان ثمنها المرتفع عائقا كبيرا وقف أمام انتشار المؤلفات المكتوبة، وسرعان ما أصبحت هذه الرقوق نادرة الوجود، حتى لقد اعتاد الرهبان على حك مؤلفات عظماء اليونان والرومان ليستبدلوا بها مواعظهم الدينية، ولولا العرب لضاعت معظم المؤلفات التى أدعى الرهبان أنهم حفظوها بعناية داخل الأديرة"

كما يؤكد جوستاف لوبون أن اكتشاف مادة تقوم مقام الرق وتشابه بردى قدماء المصريين ُيعد من أعظم العوامل فى نشر المعارف، وتثبت المخطوطات التى عثر عليها الغزيرى فى مكتبة الإسكوريال والمكتوبة فى عام 1009م على ورق مصنوع من القطن، والتى هى أقدم من جميع المخطوطات الموجودة فى مكتبات أوربا، أن العرب أول من أحل الورق محل الرق.

وليس من الصعب أن يصل الباحث فى الوقت الحاضر إلى تاريخ اختراع الورق، فمن الثابت أن الصينيين كانوا يعلمون منذ أقدم الأزمان صناعة الورق من شرانق الحرير، وأن هذه الصناعة أدخلت إلى سمرقند فى أوائل التاريخ الهجرى ، فلما فتحها العرب وجدوا فيها مصنعا للورق الحريري، ولكن اختراعا مهما كهذا لم يكن لينفع فى أوربا، التى لم تعرف الحرير تقريبا، إلا باستبدال مادة أخرى بالحرير، وهذا ما أتاه العرب حين أقاموا القطن مقامه، ولم يلبث العرب أن بلغوا فى إتقان صناعة الورق من القطن شأوا لم يُسبق، كما دل عليه البحث فى مخطوطات العرب القديمة.

ومن الجدير بالاعتبار أن العرب ما كادوا يتعلمون هذه الصناعة حتى بدأوا بتجارب لاتتاجه من الكتان والخرق، وظهرت فى بغداد أولى مصانع الورق، وبدأ استخدام الورق فى دواوين الدولة. ثم انتشرت مصانع الورق بالتدريج فى أنحاء الإمبراطورية، وأنتجت أنواعا جديدة منه، مثل ورق الحرير، وورق الكتابة، والورق المقوى وغير المقوى والورق الناعم والخشن والأبيض والملون.

أهمية الورق

وكان من حسن طالع الفنون والآداب، إذ وجدت بانتهاء عهد البردى والرق مادة رخيصة وجديدة للكتابة. إن الانقلاب الناتج عن إدخال الورق لم يكن أقل شأنا من توطئة الطريق لفن الطبع، لأن الندرة الشديدة للكتب كانت على الأكثر راجعة إلى ندرة الرقوق. ولذلك كانت أسعار الكتب غالية جدا، وحتى فى الزمن الأخير فى عهد لويس الحادى عشر حينما أراد الملك أن يستعير تصانيف طبية للإمام الرازى من مكتبة جامعة باريس، قدم مقدارا من الذهب للتأمين، واضطر زيادة عليه أن يقدم شريفا لينضم معه كالضمانة فى عهد يجبره على إعادة الكتاب.

ومما له دلالته أن صناعة الورق أدخلت إلى أسبانيا فى القرن الثانى عشر. واتخذت لها مركزا فى طليطلة، ومنها انتشرت تحت رعاية مسلمى الأندلس إلى ممالك أسبانيا المسيحية. وعلى هذا النحو تعلم الإيطاليون أيضا فن صناعة الورق من مسلمى صقلية. ويؤكد ستانوود كب أن أول وثيقة أوربية مسجلة على الورق إلى الملك روجر الصقلى Roger of Sicily ترجع إلى عام 495هـ /1102م. وأقيمت مصانع الورق لأول مرة فى إيطاليا عام 675هـ/1276م بمدينة فابريانو Fabriano وسرعان ما تبعتها مصانع أخرى فى جميع المدن الهامة، وهكذا كان إمداد أوربا بالورق عدة بين يديها لإخراج الكتب بكميات كبيرة حين حدث اختراع الطباعة حوالى عام 844هـ/1440م.

وتتضح الأهمية البالغة للورق عندما تتمثل فى أذهاننا ظروف العصور الوسطى حين كانت كتابة الكتب تجرى فى قماش Vellum أو رّق البرشمان Parchement وهما باهظان الثمن حتى أن الكاتدرائيات والأديرة وحدها هى التى كانت تمتلك مكتبات.

ولكى يتبين مدى الأثر البعيد الذى تركه هذا الاختراع وصناعته، يكفى هنا أن نشير إلى مقدار المفردات التى دخلت اللغات الأوربية والتى تتصل بالورق وصناعته اتصالا كبيرا. فالعبارات الدالة على المقاييس الورقية مثل "ريز" عربية الأصل، فلفظ "ريز" هو العربى "رزمة" بمعنى ما شد فى ثوب واحد، ومن ثم انتقلت إلى الأسبانية حيث نجد رزمة وإلى الإيطالية رزمة والفرنسية "رام" والإنجليزية "ريم".

ولذلك يؤكد الباحث رشيد الجميلى أهمية هذا الاختراع، وذلك أن الورق كان يمهد السبيل بسرعة إلى صناعة الكتب، وهذه الصناعة شرط هام وضرورى لاكتساب المعارف. وفى التقدم الثقافى يمثل الورق عدته وآلاته ويخلق شرطه المادي، فالنشاط الفكرى الذى لا غنى عنه فى بلوغ الحقيقة، فى حاجة مع ذلك إلى سبيل يحفظ المعرفة ويبغيها على مر الزمن. واقتضى الحال مع ذلك كثيرا من الوقت لكى يصل هذا الاختراع إلى الغرب. وانتقلت رويدا رويدا صناعة الورق من أسبانيا إلى فرنسا، ومن صقلية إلى إيطاليا.

كما يؤكد جوستاف لوبون على أن العرب اخترعوا من الأسمال صناعة الورق الصعبة الكثيرة التراكيب، ويستند فى هذا الرأى إلى أن العرب استخدموا هذا النوع من الورق فى زمن أقدم من الزمن الذى استخدمته فيه الأمم النصرانية بمدة طويلة، فأقدم ورق موجود فى أوربا من هذا النوع هو ورق الكتاب الذى أرسله جوانفيل إلى الملك سان لويس قبيل وفاته عام 1270م، أى بعد حملته الصليبية المصرية الأولى، مع أن لدينا ورقا عربيا صُنع من الأسمال قبل هذا التاريخ بنحو قرن، كالورق المحفوظ بين مخطوطات برشلونة والمكتوب عليه معاهدة السلم بين ملك أرغونة الأذفونشى الثانى وملك قشتالة الأذفونشى الرابع عام 1187م والمصنوع فى مصنع شاطبة العربى الشهير الذى امتدحه العالم الجغرافى الأدريسى فى النصف الأول من القرن الثانى عشر من الميلاد.

ونشأ عن كثرة المكتبات العامة والخاصة فى الأندلس أيام سلطان العرب، بما لم تعرفه أوربا فى ذلك الزمن أن اضطر العرب إلى زيادة مصانع الورق، فانتهوا إلى صنعه، بإتقان عظيم، من القنّب والكتان الوافرين فى الحقول فى ذلك الحين.

ويقول ول ديورانت: "وكان إدخال هذا الاختراع سببا فى انتشار الكتب فى كل مكان، ويدلنا اليعقوبى "891 م" أنه كان فى زمانه أكثر من مئة بائع للكتب "وراق" فى بغداد، وأن محلاتهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية، وكان كثير من طلاب العلم يكسبون عيشهم عن طريق نسخ المخطوطات وبيعها للوراقين "تجار الورق". وألحق بأغلب الجوامع مكتبات عامة، وكان يوجد فى بعض المدن مكتبات تضم كتبا قيمة، يباح الإطلاع عليها للجميع.

الورق والمكتبات

وحوالى عام 950 م أسس بعض محبى الخير مكتبة الموصل، كان الطلبة يتزودون فيها بالورق والكتب، وكانت الكتب التى توجد فى مكتبة "الري" العمومية مسجلة فى عشرة أجزاء من الفهارس. أما مكتبة البصرة، فكانت تمنح معاشات شهرية للعلماء المشتغلين فيها، وقضى ياقوت الجغرافى ثلاث سنوات فى مكتبة مرو وخوارزم يجمع معلومات لقاموسه الجغرافي. ولما قوض المغول بغداد كان فيها ست وثلاثون مكتبة عامة.

أما المكتبات الخاصة فكانت لا تحصى، ولقد رفض أحد الأطباء دعوة سلطان بخارى للإقامة ببلاطه، لأنه يحتاج إلى أربعمئة بعير لنقل مكتبته. وربما ملك الصاحب بن عباد فى القرن العاشر كمية من الكتب تقدر بما كان فى مكتبات أوربا مجتمعة، وبلغ الإسلام فى ذلك الوقت أوج حياته الثقافية، وكنت تجد فى ألف مسجد منتشرة من قرطبة إلى سمرقند، علماء لا يحصيهم العد، كانت تدوى أركانهم بفصاحتهم.

وقد كتب أقدم مخطوطات على ورق بالعربية فى القرن التاسع، وربما يكون كتاب "غريب الحديث" المنسوخ فى عام 866 م أحد أقدم هذه الكتب، وهو الآن محفوظ بمكتبة جامعة ليدن. وأما أول وثائق أوربية مكتوبة على ورق، فعقد للملك روجر الصقلى فى عام 1102م وأمر كتبته زوجته باليونانية والعربية معا فى عام 1109م.

وتذكر لنا المستشرقة زيغريد هونكه انتشار المكتبات فى العالم العربى والإسلامى بقولها: "نمت دور الكتب فى كل مكان نمو العشب فى الأرض الطيبة. ففى عام 891 م يحصى مسافر عدد دور الكتب العامة فى بغداد بأكثر من مئة. وبدأت كل مدينة تبنى لها دارا للكتب يستطيع عمرو وزيد من الناس استعارة ما يشاء منها، وأن يجلس فى قاعات المطالعة ليقرأ ما يريد، كما ويجتمع فيها المترجمون والمؤلفون فى قاعات خصصت لهم، يتجادلون ويتناقشون كما يحدث اليوم فى أرقى الأندية العلمية".

فمكتبة صغيرة كمكتبة النجف فى العراق، كانت تحوى فى القرن العاشر أربعين ألف مجلد، بينما لم تحو أديرة الغرب سوى اثنى عشر كتابا ربطت بالسلاسل، خشية ضياعها. وكان لكل مسجد مكتبته الخاصة، بل إنه كان لكل مستشفى يستقبل زواره، قاعة فسيحة صفت على رفوفها الكتب الطبية الحديثة الصدور، تباع لتكون مادة لدراسة الطلاب ومرجعا للأطباء، يقفون منه على آخر ما وصل إليه العلم الحديث. ولقد جمع نصير الدين الطوسى لمرصده فى مراغة أربعمئة ألف مخطوطة.

ومع بداية القرن الرابع الهجرى أصبحت المكتبات العربية والخزن تعج بالمخطوطات والكتب التى تبحث فى كافة العلوم والآداب، وعلى أقل تقدير ينسخ عن هذه الكتب والمخطوطات. ولقد كانت زيادة أعداد هذه النسخ من المخطوطات تعتمد على فئة من الكتبة الذين كانوا يسمون بـ "الوراقين" الذين انتشرت دكاكينهم فى كافة أنحاء الدولة العربية الإسلامية، وكان هؤلاء ينسخون آلاف المخطوطات، ولولا وجود "الوراقين" ما كانت المخطوطات العربية بهذه الكثرة. والوراقة هى مهنة "الوّراق" وهى أشبه ما تكون من حيث المهمة والإطار العام بدور النشر الحالي، وهى أقل مرتبة من التأليف. وتتطلب مهنة الوراقة حسن الخط وجودته، ودقة النقل والضبط.

ولا ننسى أنه كان لحوانيت الوراقين والعلماء أثر كبير فى التعليم فى العالم العربى والإسلامي، وتنشيط الحركة العلمية فى المجتمع الإسلامي، وسبب ذلك أن الوراقين كانوا يقومون بعملية مهمة جدا فى نشر العلم والتعليم و"الاستنساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور المكتبية والدواوين".

ولا شك أن تصحيح الكتب واستنساخها ثم تقديمها وعرضها للراغبين فيها مساهمة ذات أهمية كبيرة فى نمو مسيرة العلم وتنميتها.

وزد على ذلك، فإن الوراقين أنفسهم كانوا من كبار العلماء فى الغالب "الجاحظ وأبى حيان التوحيدي" ثم إن حوانيت الوراقين لم تكن مجرد دكاكين لبيع الكتب كما هو حال معظم المكتبات التجارية اليوم، بل كانت موضعا للتعليم أيضا، حيث أنها كانت ملتقى مفتوحا ومجلسا محببا للعلماء.

ومما يدل على أهمية حوانيت الوراقين التعليمية أن بعض العلماء قد اتخذوها مبيتا للقراءة والمطالعة فيها ليلا، وذلك لما حوته من كتب ومصادر علمية لا توجد فى غيرها. ومن أشهر هؤلاء الأديب الضارب فى كل فن بطرف عمر ابن بحر الجاحظ صاحب التصانيف المختلفة والمشاركات المتنوعة. ولم يقف النشاط العلمى بالدكاكين على حوانيت الوراقين، بل انتقل منه إلى غيره من محال البيع والشراء.

ولم تكن تلك الكتب التى تنسخ رخيصة الثمن، فقد تقاضى ابن الهيثم عالم البصريات المشهور ــ مثلا ــ 75 درهما أجرا لنسخ مجلد من مجلدات إقليدس، وقد عاش منه ابن الهيثم ستة أشهر. ولقد ترك ابن الجزار ــ الطبيب والرحالة القيروانى ــ عند وفاته 250 طناً من لفائف جلد الغزال التى كتبها بنفسه. وعرف الناس عند وفاة أحد العلماء أنه قد ترك 600 صندوق متخم بالكتب فى كل فروع العلم، وأن كل صندوق منها بلغ من الثقل حدا جعل عددا من الرجال يعجزون عن نقله إلى خارج المنزل.

ولم يكن المرء ليحسب من الأثرياء، ما لم يكن يملك مجموعة من الكتب النفيسة النادرة. وفتحت اللهفة على اقتناء الكتب، الباب أمام مئات الألوف من البشر لكسب عيشهم. فأصبح النُسّاخ والخطاطون فنانين مهرة فى فنهم، ووظفت كل مكتبة أو متجر للكتب، عددا من هؤلاء، وكان أغلبهم من الطلبة أو أنصاف المتعلمين الذين أرادوا عن هذا الطريق كسب رزقهم.

فن التجليد

وانتشر منتجو الورق بطواحينهم فى سمرقند وبغداد ودمشق وطرابلس وفى فلسطين والأندلس، وتبعهم المجلدون متأثرين بفن التجليد الصيني، يعدون علاقات رائعة للكتب، وكان المخطوط يعتمد اعتمادا كبيرا فى إخراجه النهائى على الورّاق. ولقد كان المخطوط ينطوى على التذهيب والتجليد والتلوين إضافة إلى النسخ الذى هو عمل "الوراق" الأساس.

ولقد كان للتذهيب علماء مروا على هذا الفن كاليقطيني، وإبراهيم الصغير، وأبى موسى بن عباد، ومحمود محمد. وذكر ابن النديم فى الفهرست بأن هؤلاء كانوا يذهّبون المصاحف، وكانوا يذهبون الجلود بطريقة الشرائح على جلود المصاحف أو بالطريقة الحرارية بعد ذلك. ولقد كان "الوراق" يلون بعض الحروف لتمييزها عن بعض ولا سيما بعض الحروف المتشابهة كالباء والتاء والثاء وبعض الحركات. ودخلت رسوم النباتات الملونة إلى المخطوطات. ولقد أخذ العرب فن التجليد عن الفراعنة المصريين، الذين استخدموا التجليد للكتب المقدسة، وكان من الخشب المغلف بالجلود التى كانوا يغلفونها أيضا بالأحجار الكريمة، ثم استبدلوا بحشوات الكتاب والغلاف والجلد والتجليد والحشوات الداخلية أوراق البردى المقوى فى ذلك الزمان.

ويعتبر "مصحف عثمان " هو أول كتاب عربى قد جلد. كما أخذ أهل القيروان عن الأقباط التجليد المزخرف بأشكال الزهور. واشتهرت قرطبة بجلودها المسماة "قردوطال" لقد حقق فن التجليد تطورا كبيرا فى بلاد الشام ومصر، ومنها انتقل إلى المغرب والأندلس، وعندما دخل السلطان العثمانى سليم دمشق عام 921هـ أخذ علماء التجليد إلى عاصمته استانبول فتعلم الأتراك هذا الفن وأبدعوا فيه. ومن أشهر المجلدين العرب بن هيّاج، وبن الحريش وسواهما. ولم يكتف العرب بالقدر الذى أخذوه عن فن التجليد من الأقباط، وإنما تركوا بصماتهم واضحة على هذا الفن.

ومما أضافوه إلى هذا الفن "الشمسية"التى وضعوها فى وسط غلاف الكتاب و"المغرب واللسان" الذى يحفظ ويحدد الصفحة، ويحفظ مقدمة الأوراق، والتزيين الخلفي، والطبع بالخاتم، وتلوين الحلقات، والشرازى التى تجمع الملازم، وأوجد العرب الطيارة أو الجزرة الموصولة بالجلد والتى عليها تعليقات العلماء والأساتذة والطلاب، وهى مربوطة فى الوسط عند البحث عن ورقة ممسوكة بقطعة من القماش، ممسوكة بالشيزرة فى وسط الكتاب، يستطيع التلميذ أن يعود إليها ليستدرك ما علق عليه أستاذه.

كم رزم من الأوراق، وليترات من الحبر صنعت من السناج والصمغ العربى استهلكتها الأيدى الدائبة على الكتابة فى كل عام. وكم من جلود أمدتها صغار الغزلان والماعز قد استنفدت فى هذا الغرض. وهكذا أصبحت تجارة الكتب، تماما كالصيدلة، هدية قدمها العرب للبشرية. ولذلك تؤكد هونكه على أن "تاجر الكتب لم يُعرف كوسيط لنقل الثقافة، ومتاجر الكتب كمراكز للثقافة فى المدينة، قبل أن يفعل العرب ذلك".

ففى سوق الكتب عند بوابة البصرة ببغداد، التى كانت تضم أكثر من مئة متجر، كان المتعلمون من كل أنحاء العالم الإسلامى يجتمعون. هنا يفتش الفيلسوف والشاعر والفلكى عما صدر حديثا من الكتب، وهناك ينقب الطبيب والمؤرخ وجامع الكتب عن النسخ القديمة، وهنا وهنالك يتناقشون جميعا ويتبادلون المعرفة أو تقرأ عليهم برمتهم مقتطفات مما كتب.

وهنا فى هذه الحوانيت استقبل ابن النديم زبائنه وتعرف بهم، وكان ابن النديم تاجرا للكتب، وكان هو نفسه عالما فذا له شهرته، وهو مؤلف "الفهرست" الذى يحوى أسماء جميع الكتب والترجمات التى ظهرت باللغة العربية حتى ذلك الحين، وقد ذيل اسم كل كتاب بشيء عن مؤلفه، وكان أغلب ما كتبه عن المؤلفين وليد خبرته ومعرفته الشخصية بهم كتاجر للكتب.

وكان ابن النديم كأغلبية زملائه من تجار الكتب، قد تلقى تربية علمية واسعة للكتب فسمع محاضرات الأعلام من فلاسفة عصره، وزار منازلهم، وتعرف بالأوساط العلمية التى انتشرت على شكل جماعات ومدارس فى كل أنحاء المنطقة العربية خلال القرن العاشر، وكان ابن النديم صديقا مقربا لعلى بن عيسى، أشهر أطباء العيون فى العصور والوسطى، ولغيره من أئمة العلماء الذين كان يقضى معهم السهرات الطوال فى المناقشات العلمية المثمرة، ولم يكن هذا الرجل المثقف تلك الثقافة العالية إلا نموذجا للكثيرين من زملائه ناشرى العلم والمعرفة فى تلك العصور.

وهكذا كان الوراقون آنذاك هم الناشرين للكتب، يقومون بنسخها وتجليدها وتصحيحها وبيعها وعرضها فى الواجهات والاتجار بها، وقد اشتغل بالوراقة علماء أجلاء، على رأسهم الجاحظ أديب العربية الكبير، وأبى حيان التوحيدى فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة كما وصفه ياقوت، والذى يعد نموذجا رائعا للعلماء الوراقين فى عصره. وأصبحت الوراقة مهنة راقية لكثير من الأدباء والمفكرين والعلماء، وانتشرت دكاكين الوراقين فى طول البلاد وعرضها، وأصبح للمؤلفين الشهيرين وراقون يختصون بهم، وأصبحت دكاكينهم أماكن ثقافية يرتادها الأدباء، وتعقد فيها المناظرات، وتدور فيها المناقشات.

*أستاذ الفلسفة الإسلامية، قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس، روكسي، مصر الجديدة
المصدر

http://www.alarabonline.org/index.as...2010:29:50%20ص













التوقيع
اقم دولة الاسلام في قلبك
قبل ان تقمها على ارضك
أبو عبدالرحمن
<a href=http://alyaseer.net/vb/image.php?type=sigpic&userid=16419&dateline=1227596408 target=_blank>http://alyaseer.net/vb/image.php?typ...ine=1227596408</a>
  رد مع اقتباس
قديم Oct-18-2007, 09:11 PM   المشاركة2
المعلومات

سعيد الفقعسي
مكتبي نشيط

سعيد الفقعسي غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 31379
تاريخ التسجيل: Jun 2007
الدولة: السعـوديّة
المشاركات: 82
بمعدل : 0.01 يومياً


افتراضي

استاذنا القدير / السايح
لك الشكر والتقدير على نفل هذا الموضوع الجميل والشكر موصول للكاتب المميز لهذا البحث الرائع.

واذكر ان لأستاذنا القدير الدكتور عبدالستار الحلوجي مؤلف رائع أهله للحصول على جائزة الملك فيصل العالمية وهو من أحب الكتب الى مؤلفه وهو كتاب ( المخطوط العربي ).
لك الشكر ودمت بخير.












  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
المكتبات الاسلامية وخاصة مكتبة بيت الحكمة السايح المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات 3 Dec-18-2008 07:41 PM
الكتب والمكتبات في الحضارة الإسلامية أبو فواز منتدى الإجراءات الفنية والخدمات المكتبية 4 Apr-16-2008 10:38 AM
تجليد النشرات الدورية والكتب وطريقة حفظه ولاء شيخ منتدى الإجراءات الفنية والخدمات المكتبية 4 Nov-02-2007 01:00 PM
الورق الإلكتروني د.محمود قطر المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات 2 Apr-16-2006 07:43 AM
ناشرو القرون الوسطى.. الوراقون عبدالله الشهري منتدى الإجراءات الفنية والخدمات المكتبية 2 Nov-08-2005 05:06 PM


الساعة الآن 08:23 PM.
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. جميع الحقوق محفوظة لـ : منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات
المشاركات والردود تُعبر فقط عن رأي كتّابها
توثيق المعلومة ونسبتها إلى مصدرها أمر ضروري لحفظ حقوق الآخرين