منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات » منتديات اليسير العامة » المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات » هل نمتلك خطة لإيجاد مجتمع المعرفة؟

المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات هذا المنتدى يهتم بالمكتبات ومراكز المعلومات والتقنيات التابعة لها وجميع ما يخص المكتبات بشكل عام.

إضافة رد
أدوات الموضوع تقييم الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم Feb-11-2007, 09:01 AM   المشاركة1
المعلومات

السايح
مشرف منتديات اليسير
محمد الغول

السايح غير متواجد حالياً
البيانات
 
العضوية: 16419
تاريخ التسجيل: Mar 2006
الدولة: فلسطيـن
المشاركات: 1,360
بمعدل : 0.20 يومياً


افتراضي هل نمتلك خطة لإيجاد مجتمع المعرفة؟

سعد علي الحاج بكري- الرياض
ليست المعرفة أو مجتمع المعرفة إبداعًا جديدًا يخص هذا العصر فقط، دون غيره من العصور السابقة، بل إن المعرفة قديمة قدم الإنسان، كما أن مجتمع المعرفة يعود في جذوره إلى أول مجتمع بناه الإنسان. فالإنسان بالتكوين الذي منحه الله إياه قادر على ملاحظة «الحقائق»، والحقائق معارف، وهو مفطور على تكوين «الأفكار والنظريات وأساليب العمل»، والأفكار والنظريات وأساليب العمل «معارف»، وهو متمكّن من تلقي الحقائق والأفكار والأساليب، واستخدامها واستخلاص «النتائج والقرارات والتوجهات» والعمل على تنفيذها والاستفادة منها، والنتائج والقرارات والتوجهات أيضًا معارف. وقد تراكمت معارف الإنسان على مدى العصور، وراحت الحضارات تنقل عن سابقاتها، وتضيف إليها المزيد، حتى جاءت العصور الحديثة لتقدم قفزة معرفية كبيرة ليس فقط في «زيادة» المعارف كمًا، أو في «تطويرها» نوعًا، بل في «طرق» التعامل معها، من خلال التقنيات الرقمية التي تسمح بتخزينها والتعامل معها بسهولة، وتتيح نقلها ونشرها على نطاق واسع بسرعة وفاعلية.

وقد أدت القفزة المعرفية التي نشهدها اليوم إلى بروز معطيات جديدة للمجتمعات الإنسانية، لم تعرفها المجتمعات السابقة. وهكذا برز تعبير«مجتمع المعرفة» بحلة جديدة حاملاً هذه المعطيات في صفاته، ومتطلعًا أيضًا إلى تعزيز الإمكانات المعرفية، والعمل على الاستفادة منها في تطوير المجتمعات الإنسانية. ولعل من أبرز أمثلة الاهتمام بمجتمع المعرفة ما يقوم به الاتحاد الأوربي في هذا المجال(1)، ففي مؤتمر القمة الأوربي الذي عُقد في ليشبونة عام 2000م، اتخذت قرارات لدعم التوجه نحو بناء هذا المجتمع وتطويره والاستفادة من معطياته (2). وعلى المستوى العربي فإن من أبرز أمثلة هذا الاهتمام التقرير الثاني للتنمية الإنسانية العربية الذي صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والذي حمل شعار «نحو إقامة مجتمع المعرفة»(3).

التعريف بمجتمع المعرفة

إذا حاولنا وضع تصور منطقي بسيط لتسلسل «دورة المعرفة» فإننا نجد أن لهذه الدورة ثلاث محطات رئيسة، تبدأ من محطة «توليد المعرفة»، حيث تنطلق المعرفة من التفاعل بين الحقائق والمعارف المتوفرة من جهة، وبين عقل الإنسان وقدرته على التفكير والإبداع من جهة أخرى. ولاشك أن العطاء المعرفي لهذا التفاعل محكوم بالبيئة المحيطة به. فالبحث العلمي، الذي يُعتبر من الأمثلة الهامة لهذا التفاعل، يحتاج إلى بيئة علمية مناسبة كي يُعطي العطاء المعرفي المأمول. وينطبق هذا أيضًا على نواحي الإبداع المعرفي المختلفة الأخرى.

أما المحطة الثانية، في دورة المعرفة، فهي محطة «نشر المعرفة» المتوفرة. وكما يحتاج جسم الإنسان إلى الغذاء بمختلف أصنافه، فإن عقل الإنسان يحتاج إلى المعرفة بشتى أنواعها. وعلى ذلك فإن ضرورة اكتساب المعرفة بالنسبة للإنسان تماثل ضرورة الحصول على الغذاء، بل إن الحصول على الغذاء بات مرتبطًا باكتساب المعرفة واستخدامها في المهن المختلفة، والاستفادة منها في تأمين الدخل، من أجل الحصول على المتطلبات.

وهنا نأتي إلى المحطة الثالثة من محطات دورة المعرفة، ألا وهي محطة «استخدام المعرفة». فبقدر استخدام المعرفة في تنظيم الأعمال وتسخير الوسائل، وحل المشكلات تكون كفاءة الأعمال ويكون مردودها وفوائدها المرجوة. فقوة المعرفة تأتي من توظيفها بكفاءة في شؤون الحياة، فبدون هذا التوظيف تبقى المعرفة شكلاً جميلاً تنقصه الروح، التي تبث به الحياة.

وتغذي محطات دورة المعرفة بعضها بعضًا، فنشر المعرفة، وكذلك استخدامها، يُؤديان إلى ظهور مصادر جديدة لتوليدها. وتوليد المعرفة إضافة يُطلب نشرها والاستفادة منها. كما أن توظيف المعرفة والاستفادة منها على نطاق واسع، لا يتم دون نشرها، وجعلها متاحة للجميع.

ولا شك أن للبيئة (التي تعمل دورة المعرفة في إطارها)، تأثيرًا كبيرًا على حيوية دورة المعرفة في توليدها ونشرها وتوظيفها. وتختلف معطيات هذه البيئة باختلاف الزمان والمكان. ولعل من أهم ميزات بيئة هذا العصر ما وصلت التقنية الحديثة إليه من تقدم بشكل عام، وما وصلت إليه تقنيات المعلومات من تقدم وسعة انتشار بشكل خاص. وهناك بالطبع، بالإضافة إلى التقنية، معطيات أخرى للبيئة، ترتبط بالمكان وبعوامل أخرى.

وتقدم التقنية الحديثة بشتى أشكالها، قاعدة انطلاق متقدمة للتطوير المعرفي تتضمن أساليب ووسائل جديدة، لم تكن معروفة من قبل، لتوليد المعرفة ونشرها وتوظيفها. وتعطي تقنيات المعلومات وسائط متجددة وغير مسبوقة لتخزين المعلومات وتنظيمها مهما كان حجمها، ولمعالجتها ونقلها بسرعات كبيرة، مهما تباعدت المسافات. ومن خلال ذلك تُقدم تقنيات المعلومات وسائل جديدة، يمكن من خلال توظيفها بالشكل المناسب المساهمة في دعم البحث العلمي وتوليد المعارف، وتعزيز التعليم والتدريب ونشر المعارف، وتوسيع دائرة الإعلام وتوصيل المعلومات، وزيادة الكفاءة الإدارية لمختلف المؤسسات والأعمال في شتى المجالات. ولنا في هذا الإطار أمثلة كثيرة تشمل أنظمة نشر وتبادل المعلومات عبر الإنترنت، وأنظمة التعليم إلكترونيًا، إضافة إلى أنظمة التجارة الإلكترونية، والحكومة الإلكترونية وغيرها.

إن مجتمع المعرفة في هذا العصر هو المجتمع الذي يهتم بدورة المعرفة ويوفر البيئة المناسبة لتفعيلها وتنشيطها وزيادة عطائها، بما في ذلك البيئة التقنية الحديثة بشكلها العام، وبيئة تقنيات المعلومات على وجه الخصوص، بما يساهم في تطوير إمكانات الإنسان، وتعزيز التنمية، والسعي نحو بناء حياة كريمة للجميع.

وعلى الرغم من أن هناك مؤشرات وإحصائيات كثيرة ترتبط بالمعارف والتقنية يجري استخدامها في الدراسات المختلفة، خصوصًا تلك التي تتبناها الدول أو المؤسسات الدولية، فإنه لا يوجد بعد اتفاق على تعريف موحد، ومعتمد دوليًا، لمجتمع المعرفة (يحدد مدى اقتراب مجتمع من المجتمعات من كونه مجتمعًا معرفيًا أو ابتعاده عن ذلك) ناهيك من مقاييس ومؤشرات معتمدة لهذا المجتمع(4).ولعل ما طرحه هذا المقال فيما سبق محاولة من محاولات طرح الموضوع، نأمل أن تقترن مستقبلاً بالمقاييس والمؤشرات المناسبة.

المعرفة وجوانبها العلمية والتقنية

لعل أشهر تعبير عن طيف المعارف هو التقسيم العشري للمعرفة الذي قدمه «ميلفيل ديوي» عام 1873م. وقد استُخدم هذا التقسيم في تنظيم المكتبات، ولا تزال معظم مكتبات العالم تعتمد هذا التقسيم. ويجري دوريًا، كل أربع سنوات، وضع إضافات فرعية لهذا التقسيم تبعًا لتطور المعارف، دون الإخلال بالأقسام الرئيسة العشرة التي اقترحها ديوي.

وتشمل أقسام المعرفة العشرة: المعارف العامة التي باتت تشمل علوم الحاسوب؛ والفلسفة وعلم النفس؛ والعلوم الدينية؛ والعلوم الاجتماعية بما في ذلك العلوم الاقتصادية؛ واللغات الإنسانية؛ والعلوم الطبيعية والرياضيات؛ والعلوم التطبيقية، بما في ذلك العلوم الهندسية المختلفة والإلكترونيات؛ والفنون بشتى أشكالها؛ والآداب والبلاغة؛ والجغرافيا والتاريخ. وبالطبع لا يتصف أي قسم من هذه الأقسام بالاستقلالية الكاملة، بل هناك تداخلات بين هذه الأقسام، لأن الفكر الإنساني لا يعترف بالحدود، بل يمد نظره في جميع الاتجاهات. لكن هذا التقسيم يسمح بتنظيم المعارف ويصنفها تبعًا لاقترابها من أقسامه الرئيسة العشرة وتفرعاتها الكثيرة.

ويُنظر إلى معارف العلوم المختلفة، المرتبطة بالتطبيقات التقنية، على أنها تنقسم إلى قسمين: قسم يهتم بمعرفة «لماذا»، وقسم آخر يُركّز على معرفة «كيف». ويُقصد بمعرفة لماذا «العلوم الأساسية» التي تشمل الأسس والاكتشافات والنظريات العلمية، بينما يُقصد بمعرفة كيف «العلوم التطبيقية» التي تستفيد من العلوم الأساسية في تصنيع منتجات تقنية، أو تقديم خدمات تقنية مفيدة. وفي سبيل توليد كل من معرفة لماذا؟ ومعرفة كيف؟، تهتم الدول والمؤسسات التقنية بالبحوث في كل من العلوم الأساسية والعلوم التطبيقية. وإذا كانت العلوم التطبيقية تستند إلى العلوم الأساسية، فإن البحوث في المجالات التطبيقية، كثيرًا ما تقدم معارف في العلوم الأساسية. وعلى ذلك، فإن العلاقة بين الاثنتين علاقة تفاعلية تؤثر كل منهما بالأخرى وتتأثر بها.

وليس منظور «كيف؟ ولماذا؟»، هو المنظور الوحيد إلى العلوم المرتبطة بالتطبيقات التقنية، بل إن هناك وجهات نظر في تقسيم معارف هذه العلوم. ومن ذلك على سبيل المثال وجهة النظر التي تربط المعارف بالإنسان والإمكانات المتوفرة، وتقسّمها من خلال ذلك إلى ثلاثة أقسام: «المعارف» و«المهارات» و«القدرات». ولعل هذه الأقسام تمثل الشروط الأساسية لجعل المعرفة، بأشكالها النظرية والتطبيقية، وسيلة للعمل والإنتاج والتنمية(5).

اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي

في إطار الإنتاج والتنمية، يبرز في مجال مجتمع المعرفة تعبيران هامان، باتا متداولين على نطاق واسع، هما تعبير (اقتصاد المعرفة) وتعبير (الاقتصاد الرقمي) إذا أردنا أن نعرّف «اقتصاد المعرفة»، فالبديهي أن نقول إنه «الاقتصاد الذي يبنيه مجتمع المعرفة». في مجتمع المعرفة هذا، كما رأينا سابقًا، تلقى دورة توليد المعرفة ونشرها واستخدامها اهتمامًا خاصًا يُنشّط عطاءها من خلال بيئة مناسبة، تحتل التقنيات الحديثة بشكلها العام، وتقنيات المعلومات على وجه الخصوص، مكانة مركزية فيها. ويساهم ذلك في تطوير إمكانات الإنسان، وتعزيز التنمية، وتأمين حياة كريمة للجميع. وعلى ذلك فإن المعرفة هي محور اقتصاد المعرفة الذي يتضمن ما يلي:

ü الاهتمام بالبحث العلمي والإبداع والابتكار بما يُساعد على توليد المعارف المفيدة في شتى المجالات.

ü العمل على نشر المعارف من خلال التعليم والتدريب والإعلام من أجل بناء الإنسان الذي يتمتع بالمعارف والمهارات والقدرات التي تمكنه من العمل بفاعلية واقتدار، وتدخل في هذا الإطار مسألتا محو الأمية المعلوماتية، والتأهيل الرقمي المعلوماتي.

ü التركيز على ضرورة استخدام المعارف والمهارات والقدرات على أفضل وجه ممكن بما يدعم عطاء المجتمع ويعزز تطوره.

ü توفير بيئة تفاعلية مناسبة تحث الإنسان على المساهمة فيما سبق، وتُظهر إمكاناته، وتشجعه على العطاء، وتبرز في هذا المجال ميزة التنوع الإنساني في المواهب والقدرات التي تشمل نواحي علمية تطويرية، وأخرى مهنية تنفيذية، وثالثة اقتصادية وإدارية، وغير ذلك.

ü تأمين بنية تقنية مناسبة لا يقتصر اهتمامها على الخدمات الأساسية للمجتمع فقط، بل على الرعاية اللازمة لتحفيز العمل المعرفي، والإنجاز المادي الذي يستند إليه، كما هو الحال فيما يُعرف «بحاضنات التقنية».

ü التركيز، في إطار البنية التقنية سابقة الذكر، على بنية التقنية الرقمية المعلوماتية، بما في ذلك تقنيات الاتصالات والحاسوب والإنترنت.

وإذا أردنا، بعد ما سبق، أن نعرّف «الاقتصاد الرقمي»، فإننا نقول إن هذا الاقتصاد هو ذلك الجزء من اقتصاد المعرفة الذي يختص بكل ما يتعلق بتقنيات المعلومات، التي تُعرف أيضًا بالتقنيات الرقمية. وعلى ذلك فإن تعبير «اقتصاد المعرفة» يستوعب في مضمونه تعبير «الاقتصاد الرقمي»، بمعنى أن اقتصاد المعرفة يتمتع بمدى أوسع. ومع ذلك فإن «اقتصاد المعرفة» بمفهومه المعاصر لا يتحقق دون التقنيات الرقمية، أي دون الاقتصاد الرقمي. فهذا الاقتصاد يمثل قاعدة رئيسة لاقتصاد المعرفة الحديث.

ينطلق الاقتصاد الرقمي من معطيات التقنيات الرقمية. ويشمل ذلك المعطيات المرتبطة باستخدام التقنيات الرقمية، إضافة إلى المعطيات المتعلقة بإنتاجها. في إطار الاستخدام، تنتشر التقنيات الرقمية في شتى مجالات الإنتاج والخدمات، ويعطي استخدامها بالأسلوب المناسب أداءً أفضل، يُحقق مردودًا اقتصاديًا أعلى، يصب عائده في إنجازات الاقتصاد الرقمي. ويشمل الأداء الأفضل عوامل متعددة ترتبط: بسرعة الإنجاز، وخفض النفقات، وتحسين الجودة، وتغيير أساليب العمل نحو الأفضل، إضافة إلى تطوير عوامل أمن الأعمال وسريتها. ومن الأمثلة الهامة لاستخدام التقنيات الرقمية، التي تنتشر حاليًا في شتى أنحاء العالم: التجارة الإلكترونية، والحكومة الإلكترونية، والتعليم عن بُعد، وغير ذلك من التطبيقات.

وفي مجال إنتاج التقنيات الرقمية، لا شك أن التوسع في استخدام هذه التقنيات، والتحديث الذي تلقاه باستمرار، يؤديان إلى جعل سوق هذه التقنيات سوقًا جذابة لتحسين دخل المنتجين. وعلى مستوى الدول فإن الإنتاج «ولو الجزئي منه»، للتقنيات الرقمية يقلل الاستيراد، ويفتح أبوابًا محتملة للتصدير، ويؤمن عمالة للمؤهلين، وتجدر هنا ملاحظة أن إنتاج البرامج وأنظمة المعلومات الحاسوبية، يعتمد أساسًا على العمالة المؤهلة بالمعارف والمهارات الرقمية، ولا يتطلب مواد خام، أو رؤوس أموال مرتفعة. وهناك تجارب دولية هامة في هذا المجال.

العولمة المعرفية وآثارها

لم تكن المعرفة في يوم من الأيام قابلة للحجز في مكان من الأماكن في بقعة محدودة من الأرض، بل كانت دائمًا تحمل صفة الانتشار. وحتى إذا تم حجز المعرفة المولدة لفترة ما، لأسباب أمنية أو اقتصادية، كان يأتي اليوم الذي تتحرر فيه من هذا الحجز لتنطلق إلى عقول الناس في أماكن أخرى من العالم. صحيح أن الحصاد الأول للمعرفة المولدة يجنيه في البداية من ولّدها اكتشافًا أو ابتكارًا، لكن ذلك لا يستمر لأن المعرفة تنتشر، ليتناسب حصادها بعد ذلك مع الأقدر على استخدامها الاستخدام الصحيح، والاستفادة منها بشكل أفضل، ومردود أعلى.

ولنا في تاريخ الحضارات أمثلة على ما سبق، فقد كانت الحضارات الأحدث تأخذ من معارف الحضارات الأقدم لتستفيد منها، وتضيف إليها، لتبني بذلك تميزها المعرفي. فليس ما نراه من حولنا من آثار من سبقونا، إلا نتاج تراكم معارف الحضارات السابقة. ولم تكن الحضارات تنقل من معارف الحضارات السابقة فقط، بل كانت تتبادل المعارف مع الحضارات المعاصرة لها، وكان ذلك يأخذ أشكالاً مختلفة بينها التجارة وتبادل السلع إلى جانب الأفكار والمهارات، وبينها الغزوات والحروب ترافقها أيضًا الأفكار والمهارات.

وقد ساهم التقدم العلمي والتقني في العصور الحديثة بتسهيل نقل المعارف وتبادلها بين الأمم. فقد كان لوسائل النقل ووسائل الاتصالات دور هام في هذا المجال. وفي الوقت الحاضر تساهم شبكات ووسائل الاتصالات والوسائط الحاسوبية والإنترنت، ليس في نقل المعلومات ونشر المعارف فقط، بل في الغزو الثقافي أيضًا، حيث يستطيع الطرف الأقوى نقل ثقافته إلى الأطراف الأضعف بفاعلية أكبر.

ما يهمنا مما سبق، هو انتشار المعارف المفيدة للتقدم العلمي والتقني، على مستوى العالم، ومعطياته الاقتصادية، وليس الغزو الثقافي، الذي يحتاج إلى طرح مختلف، ومعالجة أخرى في كتابات أخرى للمتخصصين في المجالات المرتبطة به. فالمعارف العلمية والتقنية قابلة للنقل والتوطين الذي يفسح المجال أمام احتمالات الإبداع والإضافة. وقد يأتي مثل هذا النقل مدعّمًا من قبل الطرفين المنقول منه والمنقول إليه، وذلك عندما يكون لكل طرف مصلحة في ذلك.

في إطار ما سبق حققت شركات البرامج الحاسوبية الهندية إنجازات متميزة في اتفاقيات بينها وبين شركات مماثلة أمريكية(6). فقد وجدت الشركات الأمريكية فرصة لدى الشركات الهندية لإنتاج برامجها الحاسوبية بتكاليف أقل، مع الاحتفاظ بالجودة المطلوبة. ووجدت الشركات الهندية بالمقابل فرصة لتلقي التقنية والعمل على إنتاجها والاستفادة من ذلك في زيادة دخلها. وقد تحققت مصلحة الطرفين بسبب وجود إمكانات بشرية مؤهلة معرفيًا في الهند تكافئ الإمكانات البشرية الأمريكية، وتتميز في ذات الوقت بأن أجورها لا تتجاوز حوالي ربع أجور الإمكانات الأمريكية!

أدى ما سبق إلى زيادة أرباح الشركات الأمريكية، ولكن في الوقت نفسه إلى انخفاض فرص العمل أمام المؤهلين الأمريكيين. وقد أقلق ذلك الاقتصاديين الأمريكيين، وأثار حوارًا ساخنًا بينهم. فعلى سبيل المثال، وضع الاقتصادي الشهير «جاك ولش» المدير السابق لشركة «جنرال إلكتريك»، هذا الأمر في إطار المنافسة المشروعة أمام المستهلك (7)، بينما حذر مساعد وزير الخزانة الأمريكي السابق «بول روبرتس» من هذا الوضع وخطورته على العمالة الأمريكية (8)، خصوصًا أن ما تنتجه الشركات الأمريكية في الهند لا يباع فقط في الهند ودول العالم الأخرى، بل داخل أمريكا أيضًا.

ولا يبدو التوجه الأمريكي نحو الهند في مجال البرمجيات الحاسوبية محدودًا بهذه الدولة، أو بذلك المجال، بل إن هناك توجهات أمريكية وأوروبية ويابانية نحو كثير من الدول الآسيوية وبينها الصين في مجالات أخرى كثيرة. ولعل السؤال الذي يخشاه اقتصاديو الدول المتقدمة هو «هل يظل ارتباط الشركات الآسيوية الصاعدة بالشركات الأجنبية بعد أن يكتمل نقل التقنية وتوطينها فيها، إن لم يكن هناك مصالح جديدة تربطها بها؟» ففك الارتباط هنا يعني ليس فقط فقدان العمالة، بل فقدان الأرباح أيضًا.

وهكذا نجد أن انتقال المعرفة العلمية والتقنية، وانتشارها على مستوى العالم، يحمل معطيات جديدة للدول الطامحة إلى التقدم تستطيع الاستفادة منها ودعم التنمية ومنافسة الدول المتقدمة. وعلى ذلك فإن تعميق الاهتمام بالمعرفة العلمية والتقنية بات متطلبًا رئيسًا للمتطلعين إلى مستقبل أفضل.

نظرة إلى المستقبل

في هذا المجال تبرز ضرورة الدعوة إلى وضع خطة استراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة العلمية والتقنية الذي يهتم بدورة هذه المعرفة، ويوفر البيئة المناسبة لتفعيلها وتنشيطها وزيادة عطائها، بما في ذلك تأمين البيئة التقنية الحديثة بشكلها العام، وبيئة تقنيات المعلومات على وجه الخصوص. ففي ذلك تطوير لإمكانات الإنسان، وبناء لاقتصاد المعرفة، وتعزيز للتنمية، وتطوير للمجتمع. ولاشك أن ذلك ليس بالأمر السهل، بل هو أمر صعب، وربما شاق أيضًا، لكنه ممكن، بل وضروري أيضًا.

المسألة المطروحة هي تفعيل دورة إنتاج ونشر واستخدام المعرفة العلمية والتقنية من خلال بيئة مناسبة. ولاشك أن محور هذه الدورة هو الإنسان كمصدر للعطاء من جهة، وكمقصد للاستفادة من جهة أخرى. في هذا الإطار علينا أن نفهم أولاً الوضع الراهن الذي يحيط بنا. ثم علينا أن نحدد غاياتنا الاستراتيجية، وعلينا بعد ذلك أن نحول هذه الغايات إلى أهداف تفصيلية متدرجة قابلة للتنفيذ. وعلينا أن نضع المشروعات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف، وأن نحدد المهمات وأساليب التنفيذ، إضافة إلى فرق العمل التي ستضطلع بهذا التنفيذ. ولا بد أن يتم ذلك بعقلية مرنة وتعاونية تستجيب للمتغيرات من ناحية، وبمناهج وأساليب إدارية سليمة، وخطوات محددة ومجدولة زمنيًا من ناحية أخرى. ولنا في تجارب الدول، وما خطته من خطوات سابقة، أمثلة نفهم منها نقاط القوة ومصادر الضعف في مسيرتها، كي تتمتع مسيرتنا بالكفاءة والنجاح المنشود، والتوفيق من عند الله عز وجل.

المراجع

1- http:europa.eu.int/ comm./employment_social/ knowledge_society/ index_en.htm

2- سعد الحاج بكري، المعلوماتية والمستقبل، مؤسسة اليمامة، كتاب الرياض 113، أيار (مايو)، 2003م.

3- تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003م: نحو إقامة مجتمع المعرفة، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي، المكتب الإقليمي للدول العربية، .ISBN: 92-1- 626000-9

4- Bakry SH. Toward the development of a standard e- readiness assessment policy. International Journal of Network Management 2003; 13(2): 129- 137.

5-Pyzdek T. The Six Sigma Handbook; McGraw-Hill: New York, 2003.

6-Business Week special report: Software: will outsourcing hurt America's supremacy, European Edition, March 1, 2004, pp. 52-62.

7-People Conversations: Life after GE? An interview with Jack Welch. Business Week, March 8, 2004, pp. 60-62.

8-Roberts PC. "The harsh truth about outsourcing: It's not a mutually beneficial trade practice-it's outright labor arbitrage. Business Week, March 22, 2004, p.67.


المصدر/
http://www.almarefah.com/article.php?id=389












التوقيع
اقم دولة الاسلام في قلبك
قبل ان تقمها على ارضك
أبو عبدالرحمن
<a href=http://alyaseer.net/vb/image.php?type=sigpic&userid=16419&dateline=1227596408 target=_blank>http://alyaseer.net/vb/image.php?typ...ine=1227596408</a>
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بحث قدمته في إحدى مؤتمرات المكتبات amelsayed المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات 13 Oct-25-2010 03:05 PM
مجتمع المعلومات المستقبلي في ليبيا الاء المهلهل المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات 6 Dec-12-2009 04:58 AM
اقتصاد المعرفة في مجتمع المعلومات د.محمود قطر عروض الكتب والإصدارات المتخصصة في مجال المكتبات والمعلومات 7 Apr-22-2007 03:14 PM
مجتمع المعلومات د.محمود قطر المنتدى الــعــام للمكتبات والمعلومات 0 Oct-29-2005 04:21 PM


الساعة الآن 09:45 AM.
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. جميع الحقوق محفوظة لـ : منتديات اليسير للمكتبات وتقنية المعلومات
المشاركات والردود تُعبر فقط عن رأي كتّابها
توثيق المعلومة ونسبتها إلى مصدرها أمر ضروري لحفظ حقوق الآخرين